google.com, pub-6802150628270214, DIRECT, f08c47fec0942fa0 حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل السادس
أخر الاخبار

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل السادس

حق مكتسب 

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل  السادس

بقلم اسماء ندا 
الفصل  السادس  
 الجزء الأول: عيون الإعلام


لم يكن الصباح عاديًا في شوارع القاهرة.

الهواء مشبع برائحة المطر الأولى، والناس تسير بخطواتٍ سريعة نحو أعمالهم، لكن شيئًا ما مختلف يسكن الأجواء.

على شاشات الهواتف، وفي الصحف، وعلى لافتات المواقع الإلكترونية، كان اسم "ليلى حسن" يلمع كوميض برقٍ وسط عتمةٍ قديمة.

امرأة خرجت من الظل، تحمل حكاية تشبه الأساطير: سُجنت ظلمًا بدل سيدة أخرى، وأنجبت طفلها خلف القضبان، ثم خرجت بعد ثمانية عشر عامًا لتطالب بحقها.


في أحد مكاتب جريدة “صوت المدينة”، جلست الصحفية الشابة ريهام شوقي أمام مكتبها المزدحم بالأوراق والأكواب الفارغة.

شعرها القصير البني ينسدل على جبينها في فوضى جميلة، وعيناها متعبتان من السهر، لكنها تقرأ الخبر بشغفٍ لا يُخفى.

قالت وهي تهمس لنفسها:


> "دي مش مجرد قضية ظلم… دي رواية كاملة لازم تتكتب."




رفعت نظرها نحو رئيس التحرير الذي كان يمر بين المكاتب، نادته بصوتٍ خافت لكنه حازم:

– "أستاذ جلال، أنا عايزة أشتغل على قضية ليلى حسن."


توقف الرجل، نظر إليها مطولًا وهو يشعل سيجارته:

– "ريهام، عندنا ميت قضية زي دي، ليه دي بالذات؟"


– "عشان فيها كل حاجة: ظلم، خيانة، أمومة، نفوذ، وغموض. الناس بتحب القصص اللي فيها حق بيرجع لأصحابه."


ابتسم بخفة، ثم أشار لها بيده:

– "تمام، عندك أسبوع. بس خلي بالك، العيلة اللي اتقال إنها السبب دي مش سهلة. دول ناس تقيلة."


– "ما يهمنيش. أنا مش داخلة حرب، أنا بدور على الحقيقة."


هز رأسه بتسليم:

– "خلاص، اعتبريها قضيتك يا بنتي. بس لو حد ضغط علينا، أنا مش هقدر أحميك زي المرات اللي فاتت."


أومأت بثقةٍ طفولية فيها عنادٍ جميل:

– "مش محتاجة حماية، محتاجة بس باب الحقيقة يتفتح."



---


خرجت ريهام من الجريدة، والهواء البارد يلفح وجهها.

أخرجت دفتر ملاحظاتها الصغير من الحقيبة، كتبت بخطٍ متوتر:


> الخط الزمني للقضية – البداية: حادثة القتل في فيلا العدل قبل ١٩ سنة. المتهمة: ليلى حسن، خادمة في المنزل. الحكم: مؤبد. الطفل: ولد داخل السجن – لم يُعترف به من الأب. بعد الخروج: تحليل DNA يثبت أن ابنها هو ابن سامي العدل.




توقفت قليلًا عند آخر جملة، ثم تمتمت:


> "ابن سامي العدل… واللي رباهم؟ مين الخاسر ومين الكاسب في اللعبة دي؟"




ركبت سيارتها الصغيرة وتوجهت نحو حيّ “الزمالك”، حيث يقع مكتب المحامي يوسف بدر — الرجل الذي تولى الدفاع عن ليلى بعد خروجها.

الشارع مزدحم كعادته، لكن قلبها كان يخفق بسرعةٍ غير مبررة، شعور غريب بالترقب وكأنها على وشك لمس سرٍ كبير.



---


كان يوسف يجلس خلف مكتبه، يراجع أوراقًا رسمية حين دخلت عليه ريهام.

رفع نظره، وابتسم بخفة:

– "الصحافة سبقت القانون المرة دي، أهلاً أستاذة ريهام."


– "شكراً يا أستاذ يوسف. جايه أسأل عن قضية ليلى حسن، وعايزة تصريح للنشر."


– "القضية لسه في بدايتها، ولسه ما تمش قبول إعادة التحقيق رسميًا. لكن اللي خرجناه للعلن كان كفاية يولّع الدنيا."


أخرجت من حقيبتها مسجلًا صغيرًا، ضغطت على الزر الأحمر وقالت:

– "ممكن أسجل الحوار؟"


– "أكيد، بس على مسؤليتك."


ابتسمت:

– "أنا متعودة."


ثم سألته بجدية:

– "هل عندكم أدلة كافية تبرئ ليلى؟ ولا لسه القضية فيها مخاطرة؟"


أجاب وهو يتكئ للخلف على الكرسي:

– "عندنا تحليل DNA بيأكد إن الطفل اللي اتولد في السجن هو نفسه الشاب اللي عاش باسم آدم سامي العدل. وعندنا شهادة واحدة على الأقل من موظفة السجن القديمة اللي حضرت الولادة. لكن المشكلة مش في الإثبات، المشكلة في النفوذ اللي ممكن يطمر الحقيقة."


– "يعني العيلة لسه بتحاول تطمس الأدلة؟"


– "ماقدرش أقول كده رسمي، لكن شوفي بنفسك، لسه لحد النهارده مفيش جهة واحدة من الإعلام الكبير نشرت صور ليلى. في تعتيم متعمد."


سكتت لحظة ثم قالت:

– "أنا هكسر التعتيم ده. مش هكتبها كخبر، هكتبها كقصة إنسانية."


نظر إليها بإعجاب ممزوج بالخوف:

– "خدي بالك يا ريهام، اللي بيدور على الحقيقة في البلد دي ساعات بيختفي قبل ما يوصلها."


ابتسمت بسخريةٍ هادئة:

– "أنا ما بخافش من الظلام، أنا اتربيت فيه."



---


بعد اللقاء مباشرة، قررت ريهام إنها لازم تقابل ليلى شخصيًا.

كانت تعرف إن الوصول إليها مش سهل، خصوصًا بعد الزخم الإعلامي، لكنها استعملت اتصالاتها القديمة.

بعد يومٍ كامل من المحاولات، حصلت أخيرًا على موعد في شقة صغيرة بحيّ “حدائق القبة”، حيث تعيش ليلى مؤقتًا منذ خروجها.


دخلت الشقة بخطواتٍ بطيئة.

الرائحة فيها مزيج من المسك والورق القديم.

كانت ليلى جالسة بجوار نافذة مفتوحة، ترتدي ثوبًا بسيطًا رمادي اللون، شعرها مرفوع بعناية، وملامحها تجمع بين القوة والتعب.

حين رفعت رأسها ورأت ريهام، ابتسمت ابتسامة واهنة لكنها صادقة.


– "اتأخرتي يا بنتي."


ضحكت ريهام بخجل:

– "زحمة الدنيا، مش الطريق."


جلست أمامها، وضعت المسجل على الطاولة وسألت بهدوء:

– "ينفع أسمع منك كل حاجة بصوتك؟ من البداية؟"


أومأت ليلى، ثم بدأت بصوتٍ خافت يشبه الحلم:

– "كنت في بيتهم خدامة. هما كانوا ناس من علية القوم، وأنا بنت بسيطة من الريف. كنت بشوف فيهم العالم كله. في يوم حصلت الحادثة… واحدة اتقتلت، وأنا كنت هناك. اتهموني أنا. ما كانش عندي لا محامي ولا حد يسمعني. كانت الست نورا حامل وقتها، والكل صدق إنها بريئة."


توقفت لتأخذ نفسًا عميقًا، وواصلت:

– "دخلت السجن، وأنا حامل من راجل رفض يعترف بالطفل. كنت فاكرة إن الولد هيموت جوايا من القهر. لكن ربنا نجاني، وولدته في غرفة باردة، تحت عيون السجّانات. ما شفتش وشه غير مرة واحدة، وبعدين خدوه مني. قالولي مات. لكن قلبي كان بيقول إنه عايش."


عينا ريهام امتلأتا بالدموع رغم محاولتها التماسك:

– "يعني كنتي عارفة طول الوقت إنه عايش؟"


– "الأم ما بتغلطش في إحساسها. كنت بحلم بيه كل ليلة. لما خرجت، أول حاجة عملتها إني روحت دار الأيتام اللي كان المفروض يروح له. هناك لقيت آثار اسمه القديم، واتتبعت الخيط لحد ما وصلت لآدم. ووقتها، كنت مش عارفة أضحك ولا أعيط."


سكتت قليلًا ثم نظرت في عيني ريهام:

– "أنا مش عايزة شهرة ولا تعويض. أنا عايزة ابني يعرف إنه ما اتخلقش في جريمة، اتخلق في ظلم."


صمتت ريهام طويلًا، ثم أغلقت المسجل وقالت:

– "أنا أوعدك، الناس كلها هتعرف الحقيقة دي. حتى لو الدنيا كلها ضدنا."


ابتسمت ليلى بخفوت:

– "ربنا يسهلك طريقك يا بنتي، بس خدي بالك… اللي ظلموني لسه عايشين."



---


في تلك الليلة، جلست ريهام على مكتبها في شقتها الصغيرة في المعادي.

الساعة كانت تقترب من الثانية بعد منتصف الليل.

أمامها أوراق، صور، تسجيلات، وملاحظات متفرقة.

بدأت تكتب تقريرها الأول بعنوان كبير:


> «ليلى حسن… الأم التي خرجت من السجن لتلد حريتها»




كل سطر كانت تكتبه كان يشعل في صدرها نارًا، مزيجًا من الغضب والإعجاب.

كتبت:


> ثمانية عشر عامًا من الصمت، وجدار السجن كان شاهدًا على أمومةٍ لم تمت.

امرأة أُدينت دون محاكمة عادلة، وضاع طفلها بين دفاتر النفوذ، حتى عاد اليوم ليقول للعالم: الحقيقة لا تموت.




كانت الكلمات تنساب منها كأنها تكتبها بقلبها لا بقلمها.

ولأول مرة منذ زمن، شعرت أن الصحافة التي حلمت بها يومًا — صحافة الحق — ما زالت ممكنة.



---


مع شروق الشمس، انتشر المقال على الإنترنت بسرعةٍ هائلة.

الناس تعاطفوا مع ليلى بجنون،

هاشتاغ باسمها تصدر الترند خلال ساعات:


> #ليلى_البرئية




البرامج الصباحية بدأت تتحدث عنها، ومواقع التواصل اشتعلت بالجدل:

منهم من يراها ضحية، ومنهم من يراها لعبة إعلامية لإسقاط عائلة العدل.

أما ريهام، فكانت تتابع التعليقات بعينين دامعتين وابتسامة متوترة.

لم تكن تعرف أنها أطلقت شرارة حربٍ حقيقية.


في مساء ذلك اليوم، تلقّت مكالمة غير متوقعة من رقمٍ مجهول:

– "أستاذة ريهام؟"


– "أيوه، مين معايا؟"


– "أنا سامي العدل."


تجمدت للحظة، ثم ردت بحذر:

– "أهلاً بحضرتك، لم أكن أتوقع الاتصال."


– "قريتِ مقالك، وعايز أقولك إنك ما تعرفيش كل حاجة. في تفاصيل محدش يعرفها غيري ونورا."


– "يعني حضرتك بتأكد إن في غلط حصل فعلاً؟"


– "ما بقدرش أنكر، بس اللي حصل ما كانش سهل. لو هتنشري حاجة تانية، لازم تسمعي مني الأول."


– "أكيد، أنا جاهزة أسمع أي وقت."


– "بكرة الساعة عشرة الصبح، عندي في المكتب."


أغلق الخط، تاركًا ريهام تنظر في الهاتف بدهشة.

هل سيكون هذا اللقاء بداية الحقيقة الكاملة أم فخًا جديدًا؟



---


في الصباح التالي، كانت ريهام أمام مبنى ضخم في وسط القاهرة يحمل لافتة “مؤسسة العدل للتجارة والاستثمار”.

وقفت أمام البوابة للحظة تتنفس بعمق قبل أن تدخل.

استقبلها الحارس بابتسامةٍ متوترة:

– "حضرتك الأستاذة الصحفية؟ المعالي مستنيك."


صعدت إلى الدور الخامس حيث المكتب الزجاجي الفخم.

كان سامي العدل يجلس خلف مكتبه الضخم، يبدو أكبر سنًا مما توقعت، وجهه مرهق لكن ملامحه صارمة.

أشار لها بالجلوس دون مقدمات.


– "إزيك يا أستاذة ريهام. واضح إنك شجاعة."


– "أنا بعمل شغلي، وبحاول أسمع من كل الأطراف."


– "كويس، لأن اللي كتبتيه قلب الدنيا. بس خليني أقولك حاجة: في حكايات لو اتقالت كلها، هتدمّر ناس كتير."


نظرت إليه بثبات:

– "بس السكوت بيدمّر أكتر، يا أستاذ سامي. الحقيقة مش خطر، الكذب هو اللي خطر."


ابتسم ابتسامة حزينة، ثم قام من مكانه واتجه نحو النافذة:

– "كنت فاكر نفسي راجل نضيف، عايش في نور، طلع كل النور ده مزيف. نورا ضيّعت حياتنا كلنا. وأنا كنت غبي كفاية إني أصدقها."


سكت لحظة، ثم أضاف:

– "أنا مش عايز أبرر، بس صدقيني، لما الواحد يكتشف إنه عاش على كذبة، بيبقى أضعف من إنه يدافع."


قالت برقة:

– "بس تقدر تصلح اللي فات. اعترافك ممكن ينقذ ست، ويبرئ ضميرك قدام ابنك قبل أي حد."


تنفس بعمق وقال:

– "آدم… هو أكتر حاجة بتوجعني. بحبه كأني من دمي، بس عارف إنه مش ابني. مش قادر أصلح العلاقة دي، ولا عارف أتعامل معاه."


– "يمكن لو ساعدت في إظهار الحقيقة، هو اللي هيصلحك من غير ما تحس."


ابتسم بخفة:

– "يمكن."


ثم أعطاها مظروفًا صغيرًا:

– "خدي ده. فيه صور وشهادة قديمة من واحدة كانت شغالة عندنا وقت الحادثة. ما سلمتهاش للمحكمة زمان. يمكن تساعدك في تحقيقك."


أخذت المظروف، قلبها يخفق بقوة:

– "يعني حضرتك مستعد تتعاون؟"


– "مش عشان ليلى… عشان نفسي. يمكن ربنا يغفرلي لو عملت الصح."


خرجت ريهام من المكتب وهي تشعر أن الأرض تحتها تهتز.

كانت الورقة الأولى من المظروف كفيلة بتغيير كل شيء:

شهادة مكتوبة بخط اليد من خادمة قديمة تُدعى “فاطمة عبد الرازق” تقول فيها إن ليلة الحادث،


> "الست نورا كانت هي اللي خرجت بالعربية، ورجعت بعدها الساعة ٣ الفجر، والجاكيت اللي كانت لابساه كان عليه دم."




ارتجفت أنامل ريهام وهي تقرأ، وعيناها تتسعان بالدهشة.

أخيرًا وجدت المفتاح.



---


في المساء، جلست ريهام مع ليلى ويوسف في المكتب نفسه الذي بدأت منه الحكاية.

وضعت المظروف أمامهما وقالت:

– "ده ممكن يقلب القضية رأسًا على عقب. شهادة شاهد عيان من جوه بيت العدل ليلة الجريمة."


فتح يوسف الأوراق بسرعة، قرأها بعينٍ متسعة:

– "دي مش مجرد شهادة… دي اعتراف غير مباشر!"


ليلى جلست صامتة، تنظر إلى الورقة كأنها ترى مصيرها يتبدل أمام عينيها.

همست:

– "ربنا كبير."


أمسكت ريهام يدها وقالت بابتسامةٍ خافتة:

– "لسه البداية يا ليلى، بس دلوقتي إحنا عندنا صوت. العالم كله هيسمعك."


كانت عينا ليلى تدمعان، لكن ابتسامتها كانت قوية، فيها مزيج من الألم والانتصار.

– "أنا مش خايفة من الناس، أنا بس عايزة ابني يفتخر بيا يوم ما الحقيقة تطلع."


في تلك اللحظة، دخل آدم المكتب، وجهه متعب لكنه مملوء بالإصرار.

قال بصوتٍ ثابت:

– "وأنا كمان مش هسيبك لوحدك يا أمي."


نظرت إليه ليلى بدهشة، دموعها تسيل دون أن تشعر، قامت واقتربت منه، مدت يدها ولمست وجهه كأنها تتحقق من أنه حقيقي.

– "قولها تاني."


– "أمي."


كانت الكلمة كافية لتغسل ثمانية عشر عامًا من الوجع.

بكت، وضحكت، واحتضنته بقوة، بينما يوسف يشيح بنظره احترامًا، وريهام تمسح دموعها بصمتٍ جميل.



---


في الخارج، كانت شاشات الأخبار تشتعل بعنوانٍ جديد:


> "شهادة جديدة قد تُغيّر مجرى قضية ليلى حسن… والإعلام يترقب تطورات مثيرة."




وفي مكانٍ آخر، في قصرٍ فخم بعيد عن الأضواء، جلست نورا العدل أمام التلفاز،

شفتاها ترتجفان، وعيناها تشتعلان رعبًا.

ألقت بالكوب من يدها فتهشّم على الأرض، ثم صرخت بصوتٍ حادٍّ كأنها تودع آخر ما تبقى من اتزانها:


> "مش ممكن! دي ما كانش المفروض ترجع!"




أما سامي، فجلس في مكتبه يشاهد النشرة بصمتٍ مطبق.

لم يبتسم، ولم يحزن، فقط أغلق

---


 الجزء الثاني
"ظلال الماضي"


كانت ليلى تجلس في ركن مقهاها الصغير المطل على الشارع الرئيسي، وعيناها تتبعان المارة كأنها تبحث في وجوههم عن ملامح ضائعة. بخار القهوة يتصاعد ببطء أمامها، ودفء الفنجان بين يديها كان يمنحها شيئًا من الطمأنينة الزائفة، لكنها لم تستطع طرد الفراغ الذي يسكنها منذ أيام.

لم تكن تعلم أن حياتها، بعد خروجها من السجن، كانت تسير نحو منعطف جديد لا يشبه أي طريق سلكته من قبل. فكل خطوة كانت تقودها نحو ماضٍ غامض لم تكتمل فصوله بعد.


كانت الليلة باردة والسماء محمّلة برذاذ خفيف من المطر، والأضواء المنعكسة من السيارات تلمع على الأسفلت المبلول مثل شظايا ذاكرة. وبينما كانت تغمس قطعة السكر في قهوتها، دخل المحقق "عمر الجندي"، بخطوات واثقة ووجهٍ يحمل التعب، وجلس أمامها دون أن يقول كلمة.


رفعت ليلى رأسها نحوه بدهشة، فابتسم ابتسامة باهتة وقال بهدوء: — "أعرف أنكِ لم تتوقعي رؤيتي مجددًا، لكن هناك ما يستحق الحديث."

ردت بصوتٍ متردد:

— "هل يتعلق الأمر بآدم؟"

— "ربما... لكن ليس مباشرة."

تجمدت أصابعها حول الفنجان، ثم همست:

— "كفاك غموضًا يا عمر. قل لي ماذا وجدت؟"


تنهد المحقق، وأخرج من حقيبته ملفًا صغيرًا وضعه على الطاولة، ثم أزاحه نحوها. فتحته ليلى ببطء، فظهر أمامها وجه شاب في العشرينات، ملامحه مألوفة بشكلٍ غريب، كأنها مزيج من وجهها ووجه رجلٍ لم تره منذ زمن بعيد.

قال عمر:

— "اسمه سامر... وُجد في دار الأيتام القديمة في الإسكندرية، انتقل منها إلى مؤسسة أخرى منذ خمس سنوات، ثم اختفى فجأة. لا سجلات رسمية بعد ذلك."

أجفلت ليلى وهي تتأمل الصورة:

— "لكن... هذا الشاب يشبهني كثيرًا! نفس العيون، نفس النظرة!"

— "لهذا أتيت إليكِ، فهناك احتمال كبير أن يكون هو ابنك، أو... شخص يعرف أين هو."


ظلّت ليلى تحدق في الصورة وكأنها تمسك بخيط الأمل الأول منذ سنوات. شعرت بأن قلبها يخفق بعنف، لكن عقلها لم يجرؤ على التصديق بعد. كم من المرات خُدعت بآمالٍ كاذبة! كم من الأوهام طاردتها ثم تركتها تائهة!

قالت بصوتٍ مبحوح:

— "وأين أجد هذا الشاب الآن؟"

— "آخر عنوان معروف له في حيّ قديم على أطراف المدينة، لكنه ترك المكان قبل عامين. الجيران يقولون إنه كان يعمل في ورشة نجارة، ثم اختفى بعد مشاجرة غامضة مع رجل ثري جاء يبحث عنه."


رفعت ليلى حاجبيها بدهشة:

— "رجل ثري؟ من يكون؟"

تردد عمر قليلًا قبل أن يجيب:

— "الاسم الذي تركه عند البوّاب كان... خالد المهيب."


ارتجف جسدها كله عند سماع الاسم. إنه شقيق نادين، المرأة التي سرقت حياتها وسجنتها ظلمًا!

شهقت قائلة:

— "خالد المهيب؟! ماذا يريد من ذلك الشاب؟!"

قال عمر بنبرة حازمة:

— "هذا ما نحاول اكتشافه. لكن هناك ما هو أغرب من ذلك… يبدو أن خالد يتابعك منذ فترة دون أن تدري."


نظرت إليه بذهول، فتناول من جيبه مجموعة صور التقطت من كاميرات الشوارع، تُظهر سيارة سوداء فاخرة كانت تتوقف بالقرب من مقهاها أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية.

همست ليلى:

— "يا إلهي... كنت أظن أنني أتوهم. كنت أشعر أن أحدهم يراقبني بالفعل."


أطرق عمر رأسه قليلًا، ثم قال بنبرة جادة:

— "ليلى، الأمر لم يعد بسيطًا. ما حدث في الماضي لم يُدفن كما كنتِ تظنين. هناك من يخشى الحقيقة، وهناك من يريد إخفاء شيء أكبر."

— "لكنني لم أعد أطيق المزيد من الأسرار، كل ما أريده هو ابني... فقط أن أجده."

— "وأنا معكِ في ذلك، لكن يجب أن نكون حذرين. خالد المهيب رجل صاحب نفوذ، وإذا كان يتتبعك، فهو يعرف أكثر مما نتصور."


صمتت ليلى قليلًا وهي تتأمل قطرات المطر التي بدأت تتساقط على الزجاج، كأنها تحاول ترتيب أفكارها وسط العاصفة. شعرت بأن ماضيها يعود ليحاصرها من جديد، كأنه لم يرحل قط.



---


في تلك الليلة، عادت ليلى إلى شقتها الصغيرة التي تطل على النيل. أغلقت الباب بإحكام، وأشعلت مصباحًا خافتًا في الزاوية. كانت شقتها بسيطة لكنها مرتبة، كل زاوية فيها تشهد على محاولتها لبناء حياة جديدة بعد السجن.

جلست على الأريكة، وبدأت تقلب الصورة بين يديها مرارًا وتكرارًا. كانت الملامح التي تراها أمامها تعيدها إلى لحظاتٍ قديمة، إلى وجه ذلك الطفل الذي احتضنته يومًا داخل زنزانة باردة، إلى ضحكته الأولى التي منحتها معنى للوجود.

همست لنفسها:

— "لو كنتَ أنت يا آدم... هل تذكرني؟ أم أنك تكرهني لأنني تركتك؟"


انهمرت الدموع على وجنتيها بصمت، لكنها لم تشعر بالضعف هذه المرة. بالعكس، كان في قلبها نارٌ من الإصرار، رغبةٌ جامحة في استعادة كل ما سُلب منها.

وقفت أمام المرآة، حدقت في وجهها طويلًا. تجاعيد خفيفة رسمها الزمن حول عينيها، لكن في نظرتها قوة امرأة لم تهزمها السنين.



---


في اليوم التالي، قررت أن تزور الحي الذي ذكره عمر في ملفه.

الحي كان عتيقًا، أزقّته ضيقة مليئة بالمحال الصغيرة والمنازل القديمة المتلاصقة. رائحة الخبز الطازج تختلط بدخان المقاهي، وصوت الأطفال يملأ المكان.

سألت بعض السكان عن سامر، لكن أغلبهم لم يعرفوه، حتى دلّتها سيدة مسنة كانت تجلس على عتبة منزلها على رجلٍ في منتصف العمر يعمل نجارًا في نهاية الشارع. قالت لها العجوز بصوتٍ مبحوح:

— "يمكن تسألي عم صبري، هو اللي كان مشغّله عنده زمان."


ذهبت ليلى إليه بخطوات مترددة. كان عم صبري رجلاً طيب الملامح، يحمل آثار التعب في وجهه، لكنه رحّب بها بودّ حين رآها.

— "إزيك يا بنتي؟ سامر؟ آه، فاكر الولد ده... كان شاطر جدًا في شغله، بس فجأة اختفى. ما قالش لحد رايح فين."

— "هو كان ساكن فين وقتها؟"

— "في أوضة صغيرة فوق الورشة، سابها من غير ما ياخد حاجته حتى. وبعدها بيومين جه راجل أنيق جدًا، سأل عليه، وقال إنه قريب ليه. بس الولد ما رجعش تاني."


ازدادت دهشة ليلى، فوصفت له صورة خالد المهيب.

أومأ الرجل برأسه مؤكدًا:

— "أيوه، هو ده بالضبط. الراجل ده نفسه!"


شعرت ليلى بأن الأرض تميد تحت قدميها.

إذن، خالد يعرف مكان ابنها، وربما يكون السبب في اختفائه!



---


حين عادت إلى منزلها تلك الليلة، كانت فكرة واحدة فقط تشغل عقلها: لماذا خالد؟

ما الذي يريده منها ومن ابنها بعد كل هذه السنوات؟

أهو يسعى للانتقام؟ أم يحاول إخفاء سرٍ أخطر من مجرد جريمة قديمة؟


جلست إلى مكتبها، وبدأت تكتب كل التفاصيل التي تذكرتها منذ لقائها الأول بنادين. وجدت نفسها تغوص في ذكرياتٍ لم تكن تريدها، تتذكر نادين حين كانت تزورها في السجن مرة واحدة فقط، ترتدي نظارتها السوداء وتلقي نظرة شفقة كاذبة قبل أن تغادر دون كلمة.

لكنها الآن أدركت أن تلك الزيارات لم تكن شفقة... بل كانت مراقبة.

ربما كانت نادين تخشى أن تفلت الحقيقة من بين يديها، وربما كانت تخفي شيئًا أكبر بكثير.


رفعت رأسها حين سمعت صوتًا خافتًا خارج النافذة. اقتربت بحذر، فرأت ظلًا يتحرك في الشارع المقابل. حاولت أن تتأكد من ملامحه، لكن الظلام كان كثيفًا. ثم لمحت انعكاس ضوءٍ خافت على زجاج سيارة سوداء متوقفة على بعد أمتار.

شعرت بالخوف، فأغلقت الستائر بسرعة، ووضعت يدها على صدرها محاولة تهدئة أنفاسها.

همست لنفسها:

— "هو يتجسس عليّ فعلاً... خالد مش هيسيبني."


لكن الخوف لم يدم طويلًا، لأن شيئًا آخر بدأ يتشكل في داخلها — إحساسٌ عميق بالتمرد.

لم تعد تلك المرأة الضعيفة التي تُسجن ظلمًا وتبكي في الظلام، بل صارت امرأة تعرف كيف تواجه.



---


في الصباح، اتصلت بالمحقق عمر وأخبرته بكل ما حدث. جاء إلى شقتها فورًا، وتفحّص المكان بعناية.

— "لازم نتحرك بسرعة، يا ليلى. واضح إننا مش بنتعامل مع مجرد رجل غني متسلط، ده شخص بيخفي أسرار كتيرة."

— "عايزة أعرف الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة."

— "بس وعديني إنكِ هتسمعي كلامي، ومش تعملي حاجة لوحدك."

ابتسمت بمرارة:

— "أنا سمعت كلام الناس كتير... لكن المرة دي هسمع كلام قلبي."


تنهّد عمر، مدركًا أن عنادها سيكون سلاحًا ذا حدين.

ثم قال:

— "طيب، في احتمال إننا نقدر نوصل لسجلات قديمة لدار الأيتام من خلال موظفة سابقة هناك. هحاول أرتب لقاء معاها بكرة. يمكن نلاقي خيط جديد يوصلنا لآدم."


أومأت ليلى برأسها، والدموع تلمع في عينيها:

— "أنا مستعدة لأي شيء… حتى لو اضطرّيت أواجه خالد وجهاً لوجه."


أجابها بنبرة حازمة:

— "لو حصل كده، لازم أكون معاكي."


ابتسمت وهي تنظر من النافذة إلى النيل الممتد أمامها، كأنها تخاطبه بصمت:

"يا آدم... أنا قرّبت منك. وعد يا حبيبي، المرة دي مش هضيعك."



---


وفي تلك اللحظة، على الضفة الأخرى من المدينة، كان خالد المهيب يجلس في مكتبه الواسع، أمامه صورة شابٍ وسيم يحمل ملامح ليلى نفسها.

مرر أصابعه على الصورة وقال بصوتٍ منخفض:

— "الوقت قرب... وكل شيء هيتكشف."


ثم رفع هاتفه واتصل برقمٍ مجهول:

— "نفّذ اللي قلتلك عليه... ما ينفعش ليلى تلاقي الولد قبلنا."


وأغلق الخطّ بابتسامة باردة، بينما على وجهه لمعة غامضة...

لمعة رجلٍ يعرف أكثر مما يقول.

---


الفصل السادس 
الجزء الثالث


كانت رائحة المعقمات تختلط برائحة الحليب الساخن والبطاطين القديمة في دار الأيتام، تُذكّر ليلى بكل ما فقدته، بكل لحظة نام فيها طفلها دون أن تكون بجانبه، بكل ليلٍ كانت تنظر فيه إلى سقف الزنزانة تتخيله يكبر بعيدًا عنها. كانت قد قضت الساعات الأخيرة تتجول في أروقة المكان كمن يسير في متاهة من الذكريات المبتورة، لا تدري إن كانت تبحث عن وجه ابنها أم عن ظلّها الذي ضاع منذ ثمانية عشر عامًا.


توقفت أمام لوحة معلقة على الحائط، كتب عليها "هبة الحياة.. دار الرحمة للأيتام"، وخُيّل إليها أن الاسم وحده يسخر منها. أي رحمة في أن يُنتزع منها طفلها باسم القانون؟ وأي حياة تلك التي تُمنح للطفل وهو يعيش دون أم؟


دخلت الغرفة التي خصصتها لها مديرة الدار لتبيت فيها مؤقتًا، وجلست على السرير الحديدي الصغير، تطوي يديها حول جسدها كأنها تخشى أن يتسرب ما تبقّى من دفء قلبها. كانت تفكر في خالد، الشاب الذي التقت به مصادفة في اليوم الأول من زيارتها، ذلك الذي كان يحمل شيئًا غريبًا في عينيه.

لم تعرف يومها ما الذي شدّها إليه، هل هو صوته الهادئ أم طريقته حين تحدّث عن الأطفال بحنانٍ صادق؟ لكنها منذ تلك اللحظة، شعرت أن بينهما خيطًا غير مرئي، خيطًا يشدّها نحوه كلما حاولت الابتعاد.


في تلك الليلة، حين انطفأت الأنوار وعمّ السكون الدار، لم تستطع النوم. خرجت إلى الممر، ووقفت أمام نافذة تُطلّ على الفناء الخلفي حيث الأشجار المظلمة تهتز في الريح. كان الضوء القادم من القمر باهتًا، لكنه كافٍ لتراها تلمح ظلاً يتحرك قرب البوابة.

ترددت لحظة، ثم قررت النزول.


حين اقتربت من البوابة، رأته جالسًا على المقعد الخشبي، يدخن سيجارة، ووجهه شارد نحو السماء. لم يشأ أن يلتفت حين سمع خطواتها، كأنه كان يعرف أنها ستأتي.


قالت بصوتٍ خافت:

ـ ما زلت هنا؟ ظننتك غادرت منذ ساعات.


أجاب دون أن ينظر إليها:

ـ لم أستطع. أحيانًا... البقاء أصعب من الرحيل، لكنني لم أقدر على ترك المكان بعد حديثك مع المديرة.


اقتربت منه ببطء، وجلست على الطرف الآخر من المقعد.

ـ كنت أحتاج أن أتنفس. الجدران تخنقني.


ألقى السيجارة أرضًا وسحقها بحذائه، ثم التفت نحوها أخيرًا.

كانت عيناها تلمعان في ضوء القمر كبحيرةٍ غارقة في الليل، وملامحها متعبة لكنها شامخة، كمن حملت العالم فوق كتفيها وما زالت واقفة.


قال لها:

ـ ليلى... لماذا أتيتِ إلى هنا فعلًا؟ لا أصدق أنك مجرد متطوعة عابرة.


ارتجف قلبها، وكأن سؤاله اخترق الجدار الذي بنتْه حول ماضيها. لم تكن مستعدة بعد للاعتراف، لكنها أدركت في تلك اللحظة أن الصمت لن يحميها أكثر.

أخفضت رأسها وقالت:

ـ أتيت أبحث عن ابني.


تسمر مكانه، كأن الكلمات سقطت عليه كصاعقة.

ـ ابنك؟


رفعت عينيها إليه، نظرة امتزج فيها الألم بالرجاء.

ـ نعم. وُلِد هنا... في هذا المكان، قبل أن يُنتزع مني وأنا في السجن.


ابتلع خالد ريقه بصعوبة، وشعر بشيء ثقيل يسقط داخل صدره. لم يعرف ما يقول، لكن هناك ذكرى بعيدة أطلّت من أعماق ذاكرته، شيء عن طفلٍ وُجد عند بوابة الدار في ليلة عاصفة، ملفوف ببطانية زرقاء، ومعه ورقة لا تحمل سوى اسمٍ واحد: آدم.


سألها بصوتٍ منخفض:

ـ كم كان عمره حين أُخذ منك؟


ـ عامان. كان أجمل ما في حياتي. كل ما بي من صبر كان من أجله.


قال مترددًا:

ـ و... هل تتذكرين شيئًا مميزًا عنه؟ علامة؟ ندبة؟


أجابته بعد لحظة صمتٍ طويلة:

ـ كان في يده اليسرى شامة صغيرة على شكل هلال.


تجمد وجه خالد، كأن الدم توقف في عروقه. لم يكن يحتاج إلى مزيد من الأدلة. كانت تلك العلامة نفسها التي طالما تساءل عنها في كفّه، منذ أن وعى على الدنيا. نفس الشامة التي كان ينظر إليها في طفولته وهو يتساءل من أين جاء بها.


حاول التماسك، لكنه لم يستطع إخفاء الارتباك الذي اجتاحه. نهض فجأة، وقال بصوتٍ متوتر:

ـ أظن... أظن أنكِ متعبة يا ليلى. يجب أن ترتاحي الليلة.


أمسكت بذراعه قبل أن يبتعد.

ـ لماذا تغيّر وجهك؟ هل تعرف شيئًا؟


تردد للحظة، ثم أدار وجهه عنها وقال:

ـ لا، لا أعرف شيئًا. فقط... لم أتوقع ما قلته.


رحل مسرعًا نحو الممر، تاركًا إياها تتلوى في الحيرة. أما هو فدخل غرفته وأغلق الباب بإحكام، وأسند ظهره إليه. قلبه كان يخبط بعنف، كأنه يريد أن يخرج من صدره.

جلس على الأرض، يدفن وجهه بين يديه، وكل مشهد من طفولته يمر أمام عينيه:

الليالي التي كان يبكي فيها دون سبب واضح، الوجوه الغريبة التي تنظر إليه في الدار بشفقة، الورقة القديمة التي خبأها مدير الدار في درج مكتبه، واسم "ليلى" الذي سمعه مرة صدفة عندما كان مراهقًا...


همس لنفسه بصوتٍ مختنق:

ـ هل يمكن أن تكون... أمي؟


مرت الساعات بطيئة حتى الفجر، حين تسلل الضوء إلى نافذته. قرر أن يذهب إلى مكتب المديرة قبل أي أحد. كانت المرأة في أواخر الأربعين، صارمة الملامح لكنها طيبة القلب، تعرف عنه كل تفاصيل حياته تقريبًا.

دخل عليها دون استئذان، وقال بلهجة متوترة:

ـ أستاذة ناهد... أريد أن أعرف الحقيقة.


رفعت رأسها عن الأوراق، ونظرت إليه بدهشة.

ـ أي حقيقة تقصد؟


اقترب خطوة وقال:

ـ من أنا؟ من أين جئت؟ من هي أمي الحقيقية؟


تغير وجهها، وغامت ملامحها بشيء يشبه الخوف.

ـ خالد، ما الذي دفعك لهذا السؤال الآن؟


ـ لأنني سمعت اسمًا بالأمس... اسم ليلى. وأظن أنني سمعتك تذكرين هذا الاسم يومًا وأنا صغير.


حاولت أن تتماسك، لكنها شعرت أن سرًّا ظلّ دفينًا لسنوات بدأ ينهار.

ـ خالد... أحيانًا، معرفة الحقيقة لا تجلب إلا الألم.


ـ أريد الألم، لا الكذب.


سكتت طويلًا، ثم أخرجت من درجها ظرفًا قديماً متهالكاً، ممهورًا بختم السجن.

ناولته إياه وقالت:

ـ هذا كل ما وصلنا يومها معك. لم أفتحه يومًا، أقسم لك. كان المدير السابق يحتفظ به، وبعد وفاته تركه لي لأحافظ عليه.


أخذ الظرف بيدين مرتجفتين، وفتح الغلاف بحذر. كان بداخله ورقة صفراء باهتة، مكتوب عليها بخطٍ متعب:


> "إلى من سيعتني بابني، اسمه آدم، وُلد من حبٍ صادق، لا من خطيئة. إن لم أستطع العودة إليه، فليكن حراً، وليعرف يومًا أن أمه ليلى لم تتركه، بل انتُزع منها."




لم يتمالك نفسه، فسقط جالسًا على الكرسي، والدموع تملأ عينيه. الورقة كانت بخطٍّ نسائي دقيق، تحمل كل صدق الألم.

تأكد الآن. لم يعد شك بعد.


في تلك اللحظة، أدركت المديرة ما حدث، فاقتربت منه بهدوء وقالت:

ـ إذن هي فعلاً أمك؟


أومأ برأسه بصمت، ثم همس:

ـ نعم... أمي.


غادر المكتب بعد دقائق، يحمل الورقة بين يديه كما يحمل قلبه. لم يكن يعرف كيف سيواجهها. هل يقول الحقيقة دفعة واحدة؟ أم ينتظر؟


وفي المساء، حين جلست ليلى في الحديقة الصغيرة تنظر إلى الأطفال وهم يلعبون، اقترب منها بخطواتٍ مترددة، يحمل في عينيه شيئًا جديدًا، شيئًا يشبه الانكسار والدهشة معًا.

مدّ إليها الورقة دون أن يتكلم.


تجمدت نظراتها حين رأت الخط، ثم الورقة، ثم الاسم. كأن الزمن توقف في تلك اللحظة.

ـ من أين... وجدت هذه؟


ـ كانت في ملفي هنا، منذ ثمانية عشر عامًا.


ارتجفت أصابعها وهي تلمس الحروف، ثم نظرت إليه ببطء، وكأنها لا تصدق ما ترى. مدت يدها المرتعشة، ووضعتها على وجهه، تتحسس ملامحه التي حلمت بها طويلاً.

ـ يا الله... أنت؟


لم يقل شيئًا. فقط انحنى أمامها، وضمّ يديها إلى صدره. كانت الدموع تتساقط من عينيه وعينيها معًا، كأنهما يغسلان وجع السنين.


قالت وهي تبكي:

ـ كنت أعد الأيام لأراك. كنت أحلم بهذه اللحظة حتى وأنا خلف القضبان. كنت أسمع صوتك في الليل وأنا لا أعرف إن كنت حيًا أم لا.


قال بصوتٍ متهدّج:

ـ وأنا كنت أبحث عن وجه يشبهني، عن حضنٍ يشبه البيت. والآن وجدته.


عانقها طويلاً، كأن العالم كله توقف حولهما، وكأن الزمن أراد أن يعتذر. لكن خلف تلك اللحظة الجميلة، كانت هناك ظلال كثيرة تنتظر.

فالمرأة التي سجنتها ظلمًا لم تختفِ بعد... ولا الماضي غفر تمامًا.


رفع رأسه عنها وقال بعزمٍ هادئ:

ـ أمي... الآن وقت الحساب.


---



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-