google.com, pub-6802150628270214, DIRECT, f08c47fec0942fa0 حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل السابع
أخر الاخبار

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل السابع

 حق مكتسب

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل السابع

 بقلم اسماء ندا 
الفصل السابع

الجزء الأول


السماء كانت ملبدة بغيوم ثقيلة تُخفي قرص الشمس كأنها تخشى عليه من أن يرى ما صارت إليه هذه المدينة.

في صباحٍ رمادي خرجت "ليلى" من الفندق الصغير الذي أقامت فيه مؤقتًا، تمسك حقيبة جلدية أنيقة جديدة، بداخلها ما تبقّى من التعويض الذي حصلت عليه. كانت خطواتها ثابتة، لكنها تحمل في داخلها اضطراب البحر في يوم عاصف.


ثمانية عشر عامًا من عمرها ضاعت خلف القضبان، والآن عليها أن تستعيد ما يمكن استعادته… لا المال، بل الحياة.

أول ما فعلته بعد خروجها أنها اشترت دفترًا كبيرًا بغلاف جلدي أسود. قالت في نفسها وهي تفتحه لأول مرة:


> "كل خطوة هكتبها هنا… عشان ما أضيعش الطريق من تاني."




كتبت في الصفحة الأولى بخط يد مرتجف:


> "اليوم الأول من حريتي الحقيقية… والبحث عن ابني يبدأ."




ثم أغلقت الدفتر، ورفعت وجهها نحو السماء التي بدأت تمطر خفيفًا كأنها تبارك البداية.


كانت وجهتها الأولى مكتب المحامية "ندى الطحان"، المرأة الوحيدة التي صدّقت براءتها يومًا ورافعت عنها بلا أمل. لم تكن تتوقع أن تراها مجددًا، لكنها شعرت أن العودة إلى الماضي ضرورية لتعرف من أين تبدأ.


في المكتب، كانت "ندى" تجلس خلف مكتب خشبي ضخم تتوسطه ملفات لا تنتهي، لكن حين رأت ليلى، وقفت بدهشة حقيقية، ثم فتحت ذراعيها بعفوية.

ـ ليلى؟ مستحيل! دي مش صدفة أبدًا!


اقتربت ليلى منها واحتضنتها بقوة، وشعرت للحظة أنها وجدت شيئًا يشبه الأمان الذي فقدته طويلاً.

جلستا سويًا، وبعد لحظة صمت قالت ندى وهي تتأمل ملامحها التي غيّرتها السنوات:

ـ ما شاء الله… ما كنتش متخيلة إنك تفضلي بنفس القوة دي.

ـ يمكن القوة دي هي اللي خلتني أعيش يا ندى.

ـ سمعت إنك خدتِ تعويض كبير بعد القضية؟

ـ أيوه… مليون دولار. بس ولا مال الدنيا هيرجع اللي ضاع.


أومأت ندى بحزن، ثم سألتها:

ـ ناوية تعملي إيه دلوقتي؟


أجابت بعينين ثابتتين:

ـ أدور على ابني.


رفعت ندى حاجبيها بدهشة:

ـ بعد السنين دي كلها؟ ده ممكن يكون اتبنى، أو حتى سافر بلد تانية!

ـ حتى لو كان في آخر الدنيا، أنا هلاقيه. أنا أمه، والدم عمره ما يضيع.


أخرجت ندى من أحد الأدراج ملفًا صغيرًا.

ـ شوفي، لما خرج الحكم النهائي ببراءتك، كنت لسه محتفظة بنسخ من أوراق القضية القديمة.

ـ ليه؟

ـ كنت حاسة إنك هتحتاجيها يوم.


تناولت ليلى الملف، وبدأت تقلب الصفحات. كان بين الأوراق تقرير من مستشفى السجن عن الولادة، يحمل تاريخ اليوم الذي أنجبت فيه، واسم الطبيبة المشرفة، وتوقيع مسؤولة من وزارة الداخلية. لكن أكثر ما شدها كان ختم صغير في أسفل الصفحة مكتوب فيه: دار الرحمة للأيتام – استلام مؤقت.


همست ليلى لنفسها:

ـ دار الرحمة... يعني ابني راح هناك؟


ـ أيوه، حسب الأوراق، الطفل اتنقل ليهم بعد ما رفض الأب استلامه.


ـ الأب؟!

قالت الكلمة وهي تعضّ على شفتها من الغضب. كان "سليم الحديدي" — رجل الأعمال المعروف، والزوج المخادع — هو السبب في كل ما حدث. هو من أنكر الطفل، وهو من تركها تواجه السجن وحدها لتغطي على خطيئة سيدته الغنية "رانيا العسال"، تلك التي دفعتها لتبدّل الأسماء وتتحمل العقوبة مكانها.


رفعت ليلى رأسها وقالت بحزم:

ـ ندى، أنا مش طالبة شفقة ولا تعاطف. أنا طالبة حقّي وحق ابني.

ـ وناوية تبدأي منين؟

ـ من دار الرحمة.


ابتسمت ندى بخفوت:

ـ متوقعتش غير كده. بس خدي بالك يا ليلى، الطريق ده مش سهل. السيدة رانيا لسه ليها نفوذ.


ـ أنا مش خايفة. المرة دي عندي سلاحين: الحرية والحقيقة.


خرجت ليلى من المكتب ونسيم بارد يضرب وجهها، لكنها شعرت للمرة الأولى منذ زمن طويل أن أنفاسها كاملة.

وقفت أمام المبنى لحظة، تنظر إلى الشارع المزدحم، السيارات، المارة، أصوات الباعة، كل شيء بدا جديدًا وغريبًا عليها، كأنها خرجت من عالمٍ آخر.


ركبت سيارة أجرة متجهة إلى عنوان "دار الرحمة".

في الطريق، ظلت عيناها معلقتين بنافذة السيارة. الشوارع تغيّرت، واللافتات تغيرت، حتى الملامح صارت أكثر قسوة. لكنها كانت ترى في كل طفل يعبر الطريق ملامح ابنها، وتشعر أن قلبها يناديه باسم "آدم" كما كانت تناديه في السجن.


تذكّرت تلك الليالي حين كانت تغني له بصوتٍ خافت حتى ينام، وتخبئه بين ذراعيها خوفًا من برد الزنزانة.

تذكرت كيف كانت تستيقظ فزعة كل مرة يُفتح فيها الباب الحديدي، تخشى أن يكونوا جاؤوا ليأخذوه منها.


حين وصلت، كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرًا.

دار الرحمة كانت مبنى قديمًا ذا جدران عالية، تعلوها لافتة جديدة تلمع تحت الشمس: "هبة الحياة – دار الرحمة سابقًا".

ضحكت بسخرية خافتة:

ـ حتى الاسم غيروه... بس ريحة الذنب عمرها ما بتتغير.


طرقت الباب فخرجت لها سيدة في منتصف العمر، ترتدي معطفًا رماديًا ونظارة طبية، سألتها:

ـ نعم؟

ـ أنا جاية أزور المكان. ممكن أقابل المديرة؟

ـ حضرتك ليكِ موعد؟

ـ لأ، بس قولي لها إن اسمي ليلى عبد الحميد، وهي هتعرفني.


دخلت الموظفة لبرهة ثم عادت مبتسمة بتوتر:

ـ تفضلي، الأستاذة ناهد مستنياكي.


دخلت ليلى إلى مكتبٍ فخم نوعًا ما، جدرانه مغطاة بصور لأطفال مبتسمين.

كانت المديرة "ناهد" تجلس خلف مكتبها، ملامحها قوية لكنها ودودة. نهضت ورحبت بليلى بحرارة.

ـ يا أهلاً وسهلاً، أستاذة ليلى! اسمك مألوف جدًا عندي... يمكن عشان عدّى علينا حالات كتير بنفس الاسم.


ابتسمت ليلى بهدوء وقالت:

ـ يمكن. بس أنا عندي حالة خاصة جدًا، ابني اتنقل هنا من تمنتاشر سنة، وعايزة أعرف عنه أي حاجة.


تغيّر وجه ناهد قليلًا، لكنها حاولت التماسك.

ـ تمنتاشر سنة؟ ده زمن طويل أوي. عندك إثبات؟


أخرجت ليلى الورقة من الملف الذي أعطته لها ندى، ووضعتها أمامها.

نظرت ناهد إليها طويلًا، ثم رفعت عينيها نحو ليلى وقالت:

ـ فعلاً الختم ده ختمنا، بس... الملف ده ما بقاش عندنا. الدار اتنقلت ملكيتها من أكتر من عشر سنين، واتغير النظام كله.


ـ يعني الملفات القديمة راحت فين؟

ـ في الأرشيف المركزي، أو ممكن تكون اتحرقت لما حصل الحريق في المستودع قبل خمس سنين.


سكتت ليلى لحظة، تشعر كأن الأرض تهتز تحتها.

ـ اتحرقت؟ يعني ضاع كل دليل؟

ـ مش أكيد، لسه عندنا نسخ إلكترونية لبعض الحالات.


هنا عادت نبضات قلب ليلى تتسارع من جديد.

ـ ممكن أراجعها؟

ـ طبعًا، بس ده محتاج وقت وتصريح رسمي.


ـ هعمل أي حاجة.


ابتسمت ناهد بتعاطف وقالت:

ـ هساعدك قد ما أقدر، بس يا ليلى... إنتِ متأكدة إنك عايزة تفتحي الجرح ده؟


ـ هو عمره اتقفل أصلاً؟


في تلك اللحظة، انفتح باب المكتب ودخل شاب يحمل ملفات في يده، طويل القامة، ملامحه هادئة، وصوته حين قال "أستاذة ناهد، دي ملفات الحالات اللي طلبتيها" جعل قلب ليلى يرتجف.


نظرت إليه، وفي لحظةٍ غريبة شعرت كأنها تعرف هذا الوجه من قبل.

كان في عينيه بريق مألوف، وفي صوته دفء يذكّرها بشيءٍ قديمٍ جدًا.

ابتسمت له ناهد وقالت:

ـ آه يا خالد، ده وقتك تمام. دي أستاذة ليلى، عندها حالة خاصة. ساعدها لو سمحت.


التفت إليها خالد ومدّ يده مصافحًا بابتسامةٍ بسيطة.

ـ أهلاً بحضرتك، يشرفني أساعدك.


حين لامست أصابعها يده، شعرت برجفةٍ داخلها، لم تفهمها لكنها هزّت كيانها كله.

نظرت إلى الشامة الصغيرة على يده اليسرى... وشعرت أن قلبها سيتوقف.

---

الفصل السابع
الجزء الثاني


كان الليل قد غطّى المدينة بطبقةٍ كثيفة من الغموض، والهواء يحمل رائحة مطرٍ آتٍ من بعيد، كأن السماء تستعد لتغسل خطايا الأرض.
في دار الرحمة، كانت الأضواء تخفت تدريجيًا، والأطفال قد خلدوا إلى النوم، بينما ظلّت ليلى جالسة في زاوية الحديقة، تحدّق في فراغٍ غارق بالأسئلة. أمامها الورقة القديمة التي حملت توقيعها، وعليها آثار دموعها التي لم تجفّ بعد.
كل حرف في تلك الورقة كان شاهدًا على وجعها، لكن ما جعلها عاجزة عن النوم هو السؤال الذي بدأ يطحن عقلها:
من الذي أرسل الورقة إلى الدار؟
كيف خرجت من السجن بهذه الدقة؟ ومن الذي أراد أن يُخفي ابنها عنها كل تلك السنوات؟

صوت خطواتٍ قادم من بعيد قطع شرودها. التفتت، فرأت خالدًا يقترب ببطء، وجهه متوتر كمن يحمل سرًّا أكبر من قدره.
لم تكن لحظة اللقاء الأولى قد بردت بعد، لكن ما في عينيه كان مختلفًا… لم يعد ابنها الصغير، بل شابًا يحمل ثقلًا جديدًا على كتفيه.

اقترب حتى صار أمامها، ثم جلس دون أن يتكلم.
كانت عينيه تتنقلان بين الورقة ووجهها، كأنه يحاول حفظ ملامحها خوفًا من أن تضيع منه مرة أخرى.

قالت بصوتٍ خافت:
ـ لم أنم منذ البارحة…
ثم رفعت الورقة أمامه.
ـ هذه الرسالة، لا يمكن أن تكون خرجت من السجن وحدها. هناك يد... هناك أحد كان يعرف كل شيء.

أخفض رأسه للحظة، ثم قال ببطء:
ـ المديرة قالت إن الورقة جاءت معك في ليلة عاصفة. لم يكن معك أحد... لكن، أظن أن القصة أعمق من ذلك.

تأملته ليلى بنظرةٍ طويلة، ثم قالت:
ـ تقصد ماذا؟
ـ أقصد أن هناك من أراد أن تُمحى هويتك من البداية. الأوراق الرسمية في ملفي ناقصة، وتاريخ الميلاد مزوّر. الدار لم تسجّلني باسم "آدم"، بل باسم "خالد رأفت".
نظرت إليه بدهشة:
ـ رأفت؟! من أين جاء هذا الاسم؟

ابتسم بمرارة.
ـ من ملفٍ مزيف… وجدته أمس في غرفة الأرشيف. لكن الملف القديم، الأصلي، مختفٍ تمامًا.

سكتت للحظة، وعيناها تتسعان بدهشة ممزوجة بخوف.
ـ رأفت... ذلك الاسم ليس غريبًا عليّ. رأفت الصاوي… زوج السيدة التي اتهمتني ظلمًا.

نظر إليها خالد بذهول.
ـ ماذا تقولين؟
ـ نعم، هو نفسه! زوج السيدة منى رأفت الصاوي، التي دفعتني إلى السجن بدلًا منها قبل أن ألدك بأسابيع.

أمسك خالد رأسه بيده، كأن الصدمة تخترق جمجمته.
ـ إذن… هذا يعني أنني...

ـ يعني أنك نُسبت إلى عائلة الصاوي بطريقةٍ متعمّدة. لقد أرادت تلك المرأة أن تمحو أثر الجريمة من حياتها، فألصقت بي التهمة، وأخفتك بعيدًا عني. لم تكتفِ بحريتي، بل سرقتك أنت أيضًا.

كان الهواء من حولهما ثقيلاً، كأن الحديقة نفسها حبست أنفاسها لتصغي.
قال خالد بصوتٍ مبحوح:
ـ الآن أفهم... لماذا كانت السيدة منى تزور الدار أحيانًا حين كنت صغيرًا، بحجة التبرع. كانت تنظر إليّ بطريقة غريبة، خليط من الحذر والشفقة. لم أكن أفهم سببها، لكنها كانت ترتجف أحيانًا إذا ناداني أحد باسمي.

ابتسمت ليلى بسخريةٍ حزينة:
ـ بالطبع. كانت تخاف أن ترى فيك ملامحها… أو جرائمها.

صمت لحظة، ثم نهضت واقفةً بعزمٍ جديد.
ـ خالد، لن أتركها تفلت هذه المرة. سأستعيد حقي وحقك.

ـ لكن كيف؟ إنها تملك نفوذًا ومالًا، والناس ينسون بسرعة.
ـ وأنا أملك الحقيقة… وهي أقوى من كل نفوذ.

اقتربت منه، وضعت يدها على كتفه وقالت:
ـ أريدك معي، لا أريد أن تخاف. الطريق صعب، لكنه الطريق الوحيد للخلاص.

أومأ برأسه، لكن قلبه كان يرتجف.
كان بينه وبين تلك السيدة ذكريات، فقد كانت هي من تكفّل بدراسته في الجامعة، وكانت السبب في حصوله على أول وظيفة تطوع. لم يعرف يومًا لماذا كانت تهتم به كل هذا الاهتمام، والآن فقط أدرك أن ذلك الاهتمام لم يكن إلا خوفًا من عودته إلى أمه.

في اليوم التالي، خرجت ليلى من دار الأيتام. وقفت أمام البوابة لحظة، تنظر إلى الشارع الطويل الممتدّ أمامها، كأنها تتأمل طريقًا لا عودة منه.
كانت تحمل حقيبة صغيرة فيها بعض الملابس والرسالة التي لم تفارق يدها، وخلفها كان خالد يسير بخطواتٍ مضطربة.

استقلا سيارة أجرة متجهة نحو حيّ الزمالك، حيث تقيم السيدة منى الصاوي.
المدينة في تلك الساعة كانت تبدو كأنها تتهيأ لحدثٍ كبير. المطر بدأ يتساقط خفيفًا، والسماء تومض ببرقٍ بعيد، والناس يسيرون مسرعين نحو الملاجئ والمقاهي. أما ليلى، فكانت تشعر أن المطر يغسل شيئًا في داخلها.
قالت وهي تنظر عبر الزجاج المبتل:
ـ منذ ثمانية عشر عامًا، خرجت من السجن بثوبٍ واحد ورائحة الحديد على جلدي. كنت أظن أنني لن أستطيع السير بين الناس من جديد، لكنني اليوم أشعر أنني أعود لأنتزع ما سُرق مني.

حين وصلت السيارة أمام القصر الفخم، شعرت أن أنفاسها تختنق. كانت البوابة الحديدية العالية تُذكّرها بسور السجن، بنفس الصقيع الذي يحاصرها.
مدّ خالد يده، وقال بهدوءٍ يشوبه التردد:
ـ أمي... هل أنتِ متأكدة أنكِ جاهزة؟

نظرت إليه بعزمٍ صلب:
ـ لا أحد جاهز للماضي يا خالد. لكنه حين يأتي، لا بد أن نواجهه.

تقدمت نحو البوابة، وطرقت الجرس.
فتح الحارس بعد لحظة، رمقها بنظرةٍ متفحصة وقال بحدة:
ـ نعم؟
ـ قولي للسيدة منى إن ليلى عامر ترغب في مقابلتها.

تجمّد وجه الحارس، ثم نظر إليها ثانيةً بعد أن تردّد للحظة.
ـ لحظة من فضلك.
دخل القصر، بينما ظلت ليلى واقفة تحت المطر، تتساقط القطرات على وجهها كأنها دموع السماء.

بعد دقائق عاد الحارس، وعلى وجهه ملامح ارتباك.
ـ السيدة منى ستراك… تفضلي بالدخول.

دخلت البهو الواسع، تتأمل الجدران التي تتدلى منها لوحات زيتية ضخمة. الأرض من الرخام الأبيض، والروائح الفاخرة تعبق في المكان. كان كل شيء في القصر يصرخ بالثراء… لكنه في عينيها بدا كجدارٍ من الزيف.

ظهرت السيدة منى على رأس السلم الرخامي، أنيقة كعادتها، شعرها مصفف بعناية وابتسامتها باردة كحد السكين.
نزلت ببطء، حتى صارت أمام ليلى وجهًا لوجه.
قالت ببرودٍ قاتل:
ـ ليلى عامر… لم أتخيل أنني سأراك مجددًا خارج القضبان.

ابتسمت ليلى بسخريةٍ مرة.
ـ وأنا لم أتخيل يومًا أنني سأراك دون قناع.

تبادلت المرأتان نظراتٍ كالسيوف، قبل أن تتابع منى بصوتٍ بارد:
ـ ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟ أظنك حصلتِ على تعويضك السخيّ من المحكمة، أليس كذلك؟
ـ التعويض لا يُعيد العمر ولا الطفل الذي سرقتموه مني.

تغيّر وجه منى، لكنّها حاولت التماسك.
ـ لا أفهم عمّا تتحدثين.
ـ تفهمين جيدًا، منى. خالد... أو كما سميتِه أنتم “خالد رأفت”، هو ابني. وأنتِ تعرفين ذلك.

ضحكت منى بخفوتٍ متوتر، ثم نظرت نحو خالد الذي وقف خلف ليلى بخطواتٍ مترددة.
ـ هذا الشاب؟ تقصدين أنه ابنك؟ مثير للشفقة حقًا، ما زلتِ تعيشين في أوهام السجن، ليلى.

قال خالد بحدةٍ مفاجئة:
ـ كفى. أنا رأيت الرسالة. بخط يدها. ووجدت أوراقًا تحمل ختم السجن نفسه. كفاكِ كذبًا!

ارتبكت منى للحظة، لكنها سرعان ما استعادت برودها:
ـ ومن سيصدقكما؟ سجينة سابقة وشابٌ بلا هوية حقيقية؟ لقد انتهى زمن القصص الميلودرامية.

اقتربت ليلى منها، حتى كادت المسافة بينهما تختفي.
ـ ربما انتهى زمن القصص، لكن زمن العدالة بدأ الآن.

مدّت يدها وأخرجت من حقيبتها نسخة مصوّرة من تقريرٍ قديم كانت حصلت عليه من محاميها بعد خروجها من السجن — تقرير يثبت أن البصمة الوراثية لطفلٍ مجهول الهوية في دار الرحمة تطابقت مع عيّنة من دمها قبل ١٨ عامًا، لكن التقرير اختفى فجأة قبل أن يُقدَّم للمحكمة.
ـ تتذكرين هذا؟
تجمّد وجه منى للحظة، قبل أن تتراجع خطوة إلى الوراء.
ـ من أين حصلتِ عليه؟!
ـ من المكان نفسه الذي دفنتِ فيه أسرارك. من الأدراج التي ظننتِ أنها أغلقت إلى الأبد.

كانت لهجة ليلى هادئة لكنها تحمل نغمة تهديدٍ خفي.
تقدمت خطوة أخرى، وهمست قرب أذن منى:
ـ هذه المرة، لن أذهب إلى السجن. هذه المرة، أنتِ من ستذهبين.


---

في تلك اللحظة، دخل رجل في منتصف العمر يحمل حقيبةً جلدية، وعلى وجهه ملامح ذعر. كان المحامي الخاص بمنى، وقد تلقى اتصالها قبل دقائق.
قال بارتباك:
ـ سيدتي، علينا أن نتحدث في المكتب فورًا.

لكن ليلى لم تتحرك. نظرت إلى الرجل، ثم إلى منى، وقالت بصوتٍ مملوءٍ بالعزم:
ـ لا تقلقي… لن أرحل حتى أستعيد حقي.

غادرت القصر مع خالد وسط صمتٍ ثقيل، تاركة خلفها سيدةً بدأت تدرك أن الماضي الذي دفنته قد عاد ليحاكمها.

في السيارة، لم تتكلم ليلى. كانت تحدّق في الورقة بين يديها، والبرق يضيء وجهها بين الحين والآخر، فيبدو مزيجًا من القوة والحزن.
أما خالد، فكان ينظر إليها بإعجابٍ خائف.
سألها أخيرًا:
ـ وماذا بعد، أمي؟
ـ الآن، سنفتح الباب الذي ظنّوا أنه أُغلق إلى الأبد. سنبدأ من أول الخيط… من السجن.


-

الفصل السابع
الجزء الثالث


كانت أصوات المطر ما تزال تطرق النوافذ بإصرار، حين فتحت ليلى عينيها فجراً على طيفٍ من الماضي يمرّ أمامها كالحلم. لم تستطع أن تهدأ بعد مواجهة الأمس، فكلما أغمضت عينيها، رأت وجه منى الصاوي يبتسم ببرودٍ متعجرف، كأنها ما زالت تمسك بخيوط اللعبة.
لكن ليلى لم تعد تلك السجينة المكسورة التي تُقاد بالأوامر. لقد تغيّر شيءٌ في داخلها منذ أن وجدت ابنها. صار الخوف نفسه وقودًا يدفعها للأمام.

ارتدت معطفها القديم، وحملت حقيبتها الصغيرة التي لا تفارقها، وخرجت من دار الأيتام دون أن توقظ خالد.
كانت تعرف أنه سيلحق بها حتمًا، لكنه يحتاج أن يرى بعينيه ما كانت تخبره عنه طوال الليل: أن السجن ليس مجرد جدران، بل ذاكرة من الحديد والرماد.

في الطريق إلى "سجن القناطر"، كانت المدينة لا تزال نصف نائمة. الشوارع المبتلة تعكس أنوار المصابيح كأنها بحيرات صغيرة، والسيارات القليلة تمرّ مسرعة، لا تلوي على شيء.
تأملت وجهها في زجاج السيارة. هناك تجاعيد جديدة لم تكن موجودة قبل عامين، لكن عينيها كانتا أكثر صلابة من أي وقت مضى.
همست لنفسها:
ـ لن أخرج من هناك خالية هذه المرة… لن أتركهم يختبئون خلف المال والسلطة.

حين وصلت أمام بوابة السجن، أحست أن الزمن توقف. البوابة العالية، الحارس العابس، أصوات المفاتيح… كلها صور من ماضيها عادت لتنهشها.
اقتربت من البوابة ببطء، وقدّمت هويتها للحارس. نظر إليها باستغراب، ثم قال:
ـ زيارة؟
ـ نعم… أريد مقابلة الضابطة المسؤولة عن ملفات النزيلات قبل ثمانية عشر عامًا. اسمها إنجي مراد.
ـ إنجي؟ هي خرجت على المعاش من سنين، لكن ممكن نراجع السجلات.

أدخلها إلى مكتبٍ صغير تفوح منه رائحة الورق القديم والمعقمات. جلست تنتظر، بينما قلبها يدقّ بعنفٍ غريب. كانت تعلم أن هناك شيئًا مدفونًا هنا، شيئًا لم يُكتب في المحاضر.

وبينما كانت تنتظر، انفتح الباب فجأة، ودخل خالد مسرعًا، ووجهه مبلل بالمطر.
ـ أمي! ظننتك اختفيت!
ابتسمت له بخفةٍ متعبة:
ـ لم أستطع أن أتركك نائمًا إلى الأبد، أليس كذلك؟
جلس إلى جوارها، وأمسك يدها بصمت. كانا كأنهما يقفان على فوهة ذكرى لا يريدان أن تنفجر.

دخل الضابط الشاب بعد دقائق، يحمل ملفًا كبيرًا بيده.
ـ حضرتك كنتِ نزيلة هنا في عام 2007، صحيح؟
أومأت برأسها.
فتح الملف، ثم قال وهو يقلّب الأوراق:
ـ السيدة إنجي مراد سجّلت ملاحظة بخط يدها… تقول إن إحدى السجينات أخبرت عن شبهة في القضية التي حُكم عليكِ بسببها.

شهقت ليلى:
ـ ماذا قلت؟!
ـ مكتوب هنا: "النزيلة—نورا العطار—ادّعت أنها كانت شاهدة على تسليم حقيبة الأموال الحقيقية إلى سيدة أخرى، وليس إلى ليلى عامر. وتمّ نقلها إلى سجن دمنهور بعد أسبوعين من هذه الملاحظة".

تجمدت ليلى في مكانها.
اسم "نورا العطار" ارتطم بذهنها كصفعة.
تذكرت تلك المرأة الصامتة التي كانت تقاسمها الزنزانة أيامها الأخيرة، والتي كانت تعرف الكثير لكنها لم تتكلم يومًا.
قالت بصوتٍ مرتجف:
ـ هذه السيدة… أين هي الآن؟
ـ سجينة سابقة، خرجت منذ عامين. آخر عنوان مسجل لها في حي شبرا.

التفتت إلى خالد، عيناها تشعان بعزمٍ جديد.
ـ إذن هناك من يستطيع أن يشهد… هناك من رأت كل شيء بعينيها.

خرج الاثنان من السجن بخطواتٍ سريعة، بينما المطر يشتد. كانت السماء رمادية كأنها تشاركها غضبها.
في السيارة، جلس خالد صامتًا، يراقب أمه وهي تحدّق من النافذة بوجهٍ متصلب.
قال أخيرًا:
ـ أمي، هل تثقين أن تلك المرأة ستتحدث؟ بعد كل هذه السنين؟
ـ لو كانت صامتة خوفًا، فلن تخاف بعد الآن. لأنني لن أسمح لها بالصمت.


---

وصلت ليلى إلى حي شبرا مع حلول المساء.
كانت الأزقة ضيقة ومزدحمة، ورائحة الخبز والدخان تمتزج في الهواء. سألت عن عنوان "نورا العطار"، فدلّها أحد الباعة إلى مبنى قديم من أربعة طوابق، جدرانه متشققة كأنه يئنّ من الزمن.
صعدت الدرج بخطواتٍ بطيئة، وقلبها يقرع صدرها بقوة.

طرقت الباب، ففتحته امرأة في الخمسين تقريبًا، بوجهٍ نحيل وعينين غائرتين.
ـ نعم؟
ـ هل أنتِ نورا العطار؟
نظرت إليها طويلاً، ثم همست بدهشة:
ـ ليلى؟ مستحيل!

ابتسمت ليلى ابتسامةً حزينة:
ـ بل ممكن، الزمن لا يقتلنا بل يعيدنا بوجوهٍ جديدة.

دخلت إلى الشقة الصغيرة، وجلست على كرسي مهترئ بجوار النافذة. المكان يعبق برائحة القهوة والذكريات.
قالت نورا بعد صمتٍ ثقيل:
ـ لم أكن أظن أنكِ ستعودين تبحثين عن تلك القصة.
ـ وكيف لا أعود؟ لقد سرقوا عمري، وسرقوا ابني، وكل ما أريده الآن هو الحقيقة.

تنهدت نورا بعمق، ثم نظرت إلى ليلى بعينين فيهما بقايا خوف.
ـ هناك أشياء لا يمكن نسيانها يا ليلى. أتذكرين الليلة التي نُقلت فيها إلى السجن؟ كنتِ تصرخين وتبكين لأنهم قالوا إنك سرقتِ حقيبة المجوهرات من معرض منى الصاوي. لكني رأيت بعيني شيئًا آخر.

اقتربت ليلى، قبضت على يدها بقوة.
ـ قولي لي كل شيء، أرجوك.

ـ تلك الليلة، جاءت منى الصاوي بنفسها إلى السجن قبل أن تُحال قضيتك إلى المحكمة. جاءت بملابس فاخرة وتحدثت مع الضابط المسؤول عن التحقيق. بعد خروجها، أُحرقت بعض الملفات في المكتب، وقالوا إنّها صدفة. ثم نُقلتُ أنا بعد أسبوعين إلى سجنٍ آخر، لأنني قلت إنني شاهدت خادمتها تحمل الحقيبة الحقيقية.

كانت كلماتها تتساقط على أذن ليلى كالمطر، ثقيلة ومؤلمة.
ـ لماذا لم تشهدي في المحكمة؟
ـ لأنهم هددوني. قالوا إن ابني الصغير سيختفي لو فتحت فمي. كنتُ جبانة يا ليلى… غفرتِ لي؟

أطرقت ليلى رأسها، والدموع تملأ عينيها.
ـ غفرت لكِ منذ اللحظة التي نطقتِ فيها بالحق. الآن أريد منك شيئًا واحدًا: أن تشهدي رسميًا.

ـ بعد كل هذه السنين؟ هل سيصدقني أحد؟
ـ سيصدقك القضاء حين نُثبت كل الخيوط. خالد سيساعدنا.

تقدّم خالد بخطواتٍ ثابتة، وأخرج هاتفه ليسجل حديثهما بالفيديو.
ـ اسمك الكامل، من فضلك، والسنة التي كنتِ فيها سجينة.
نظرت إليه بتردد، ثم قالت بصوتٍ مرتجف:
ـ اسمي نورا حسن العطار، كنت سجينة في سجن القناطر عام 2007، وشهدت أن منى الصاوي دفعت رشوة لمسؤول التحقيق لتغيير أقوالي.

حين انتهت من الحديث، أوقفت ليلى التسجيل، وقالت بنبرةٍ حاسمة:
ـ هذه البداية فقط.


---

في تلك الليلة، حين خرجت ليلى من العمارة، أحست أن أحدًا يراقبها من بعيد.
التفتت أكثر من مرة، فلم ترَ أحدًا، لكن إحساسها القديم، الذي تعلّمته في السجن، لم يخذلها. هناك من يتبعها.
أمسكت بذراع خالد وهمست:
ـ لا تنظر خلفك… لكن هناك من يراقبنا.

مشيا بسرعة عبر الزقاق، ثم انعطفا إلى شارع جانبي. كانت خطوات الرجل خلفهما واضحة الآن.
همس خالد:
ـ أمي، اصعدي إلى السيارة بسرعة.

بمجرد أن دخلت السيارة وأغلقت الباب، ظهر الرجل. كان يرتدي معطفًا أسود وقبعة تغطي نصف وجهه.
اقترب من نافذتها وطرق الزجاج مرتين، ثم ألقى بظرفٍ بني صغير على المقعد الأمامي، وغادر مسرعًا.

التقطت الظرف بحذر، وفتحت الغلاف.
في الداخل، وجدت صورة قديمة بالأبيض والأسود، تُظهر منى الصاوي وهي تتحدث مع أحد الضباط في السجن… ومعها ورقة مطبوعة كتب فيها:

> "احذري، الحقيقة ليست كما تظنين."



نظرت ليلى إلى الصورة بدهشة، ثم إلى خالد.
ـ هذا يعني أن هناك من يعرف أكثر منا.
ـ أو يريد أن يوجّهنا لطريقٍ آخر.

قالت ببطء، وهي تحدق في الصورة:
ـ في كل الأحوال، الباب انفتح… واللعبة بدأت.


---

عادا إلى دار الأيتام تلك الليلة متأخرين، والهدوء يخيّم على المكان.
جلست ليلى على سريرها، تتأمل الصورة في يدها، وكل تفاصيل اليوم تمر أمامها كعرضٍ طويل من الوجع والدهشة.
كانت تعرف أن ما ينتظرها ليس مجرد معركة قانونية، بل معركة بقاء.

أما خالد، فجلس في غرفته يكتب ملاحظاتٍ على دفتره الصغير، يسجل كل اسمٍ وكل حدثٍ حدث في الأيام الأخيرة.
لكن ما لم يعرفه الاثنان، أن هناك من كان يتابع خطواتهما لحظة بلحظة… وأن الظرف البني لم يكن تحذيرًا فقط، بل بداية سلسلة من التهديدات التي ستغير مجرى كل شيء.

في آخر الليل، حين أطفأت الأنوار، سُمعت طرقات خفيفة على نافذة ليلى.
اقتربت بخطواتٍ حذرة، فتحت الستارة ببطء، فرأت ورقة ملصقة على الزجاج من الخارج، مكتوب عليها بخطٍ واضح:

> "الصمت أمان… أما الكلام، فثمنه باهظ."



تراجعت خطوتين إلى الوراء، والقشعريرة تسري في جسدها.
وضعت يدها على صدرها، تهمس لنفسها:
ـ يبدو أن الحقيقة بدأت تخاف منا.

ثم نظرت إلى الظلام خلف النافذة، وقالت في صوتٍ ثابت:
ـ وأنا لا أخاف من الظلام بعد الآن.


----
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-