حق مكتسب
 بقلم اسماء ندا 
✦ الفصل الرابع
"وجوه في المرايا" – الجزء الأول
كان الصباح هادئًا على غير العادة،
شمسٌ باهتة تنسل من خلف الغيوم وتغسل شوارع المدينة بضوءٍ ذهبيٍّ خافت.
استيقظ “آدم” على صوت خطواتٍ متسارعة في الممرّ،
ثم صوت المشرفة تصيح:
“آدم! المدير عايزك حالاً في المكتب!”
لم يكن يعرف السبب،
لكن قلبه خفق بسرعة غريبة كأنه يعرف أن شيئًا مهمًا ينتظره.
غسل وجهه على عجل، سرّح شعره بيده، وارتدى قميصًا نظيفًا،
ثم خرج متجهًا نحو مكتب الإدارة في الطابق الأرضي.
---
كان المكتب صغيرًا، تعلوه رائحة الورق القديم،
والمروحة تدور ببطء كأنها تئنّ.
خلف المكتب جلست “مدام ناهد” – مديرة الدار –
بوجهها المتجهم المعتاد ونظارتها السميكة.
رفعت رأسها إليه وقالت:
“آدم، في شركة كبيرة اسمها (المهيب للاستثمار) طالبة موظف تحت التدريب.
الرجل اللي جه الأسبوع اللي فات اختارك بنفسه.”
تردد قليلاً، ثم سأل بقلق:
“الرجل اللي اسمه عادل؟”
أومأت برأسها دون أن تفكر في نبرة صوته.
“أيوه، هو. قال إنك عاجبته وشايف فيك مستقبل كويس.”
ظلّ واقفًا صامتًا للحظة، ثم قال:
“أروح إمتى؟”
– “النهارده. عندهم مقابلة مبدئية الساعة عشرة.”
أومأ بخفة وغادر الغرفة.
لكنه حين خرج، شعر كأن الأرض تهتز تحت قدميه.
لم يفهم لماذا يثير هذا الرجل بداخله كل هذا الاضطراب،
ولا لماذا يشعر بشيءٍ غامضٍ يشده نحوه ويخيفه في الوقت نفسه.
---
وقف أمام المرآة الصغيرة في غرفته.
أصلح ياقة قميصه،
حاول أن يبدو واثقًا رغم الارتباك.
“ده مجرد شغل، فرصة زي أي فرصة…
لكن ليه كل ما أفتكر وشه، بحس إني شُفتُه قبل كده؟”
همس لنفسه، ولم يجد جوابًا.
خرج من الدار، استقلّ حافلة مزدحمة متجهة إلى وسط المدينة.
كلما اقترب من البرج الزجاجي الذي يحمل اسم “المهيب”،
كان يشعر بشيءٍ ثقيل في صدره — كأن القدر يدفعه دفعًا إلى بابٍ لا يمكنه الرجوع منه.
---
دخل المبنى الكبير.
الاستقبال فخم، الأرضية تلمع كالمرآة، والموظفون يتحركون بخطواتٍ محسوبة.
اقترب من موظفة الاستقبال وسأل بخجل:
“عندي مقابلة شغل، مع أستاذ عادل المهيب.”
نظرت إلى الورق أمامها ثم قالت بابتسامة مهنية:
“أهلاً بيك، الدور التاسع، مكتب المدير التنفيذي.
بس خليك عارف، المقابلة الشخصية معاه بتبقى دقيقة جدًا.”
شكرها، ودخل المصعد الزجاجي الذي ارتفع به في صمتٍ ثقيل.
تأمل المدينة من خلف الزجاج، بدت صغيرة، بعيدة،
كأنها عالمٌ آخر لا علاقة له بحياته القديمة في دار الأيتام.
حين وصل إلى الطابق التاسع، وجد سكرتيرة أخرى بملابس رسمية.
قالت له بلطفٍ مصطنع:
“الأستاذ عادل منتظرك، اتفضل.”
---
دخل “آدم” المكتب بخطواتٍ مترددة.
كانت الغرفة واسعة تطل على المدينة كلها.
خلف المكتب جلس “عادل المهيب”،
يرتدي بدلة رمادية داكنة، عيناه تلمعان خلف نظارة رفيعة،
لكن التعب كان واضحًا في ملامحه رغم هيبته.
رفع رأسه ببطء، وعندما التقت عيناه بعيني “آدم”،
تجمّد للحظة، كأن الزمن توقف.
ابتسم بخفةٍ متوترة وقال:
“أهلاً يا آدم… اتفضل اقعد.”
جلس الشاب في المقعد المقابل وهو يشعر أن الهواء أثقل من المعتاد.
قال عادل وهو يقلب بعض الأوراق:
“أنا فاكر وشك كويس. فيك حاجة مميزة… بتفكرني بحدّ.”
– “حدّ تعرفه؟”
– “يمكن.”
ثم صمت لحظة، وأضاف بنبرةٍ عملية:
“المؤسسة بتدور على شباب عندهم طموح.
الوظيفة بسيطة مبدئيًا، مساعد في قسم الأرشيف، وبعد كده ممكن تطلع لفوق حسب كفاءتك.”
هزّ آدم رأسه وقال:
“أنا موافق.”
ابتسم عادل، ابتسامة فيها راحة غريبة وقلق في الوقت نفسه.
ثم قال:
“ابدأ من بكرة. وهتتعلم كتير هنا يا آدم.”
---
خرج الشاب من المكتب، بينما ظلّ عادل ينظر إلى الباب بعد مغادرته،
يده ترتجف وهي تمسك بالقلم.
فتح درج مكتبه مرة أخرى، أخرج ملفًا صغيرًا من الورق الأصفر.
كان عليه اسم: ليلى حسن عبدالغفار.
قلب الأوراق ببطء، حتى وصل إلى وثيقةٍ طبية قديمة مكتوب فيها:
“تم نقل الطفل الذكر إلى دار الأيتام رقم ١٤٥ تحت الاسم الرمزي (آدم).”
شحب وجهه، وأسند رأسه على المقعد وهو يتمتم:
“يعني هو… ابني؟!
ابني اللي حرمتُه من أمه… ومن نفسي.”
أغلق الملف بعنف ودفنه في الدرج،
ثم رفع رأسه نحو النافذة، وعيناه تلمعان بين الندم والخوف.
كان يعرف أن الماضي عاد لينتقم،
وأن الحقائق لا تظل مدفونة إلى الأبد.
---
في المساء، كان “آدم” عائدًا إلى الدار.
جلس في الحافلة بجوار النافذة،
يراقب انعكاس وجهه على الزجاج.
للحظة، بدا له أن ملامحه لم تعد تخصه،
كأن المرآة تكشف شخصًا آخر يعيش بداخله.
أغمض عينيه، فرأى نفس الحلم يتكرر:
المرأة ذات الشعر الطويل والدموع في عينيها،
تمدّ يدها نحوه وتقول: “آدم… قرب، خليني أشوفك.”
هذه المرة لم يهرب من الحلم،
بل سار نحوها بخطواتٍ بطيئة، حتى كاد يلمس يدها.
لكن فجأة ظهر خلفها رجلٌ طويل الظل،
خطفها بعيدًا وسط ضوءٍ ساطع، وتركه يصرخ بلا صوت.
استيقظ مذعورًا وهو يلهث،
بينما الحافلة تتوقف أمام الدار.
وضع يده على صدره، قلبه يخفق بقوة.
لم يعد يفهم شيئًا.
لكن داخله صوت خافت يقول له:
“كل ده له علاقة بالشغل الجديد… وبالرجل اللي شُفتُه النهارده.”
---
في الجهة الأخرى من المدينة،
كانت “ليلى” تجلس أمام أوراقٍ مبعثرة في حجرتها الصغيرة.
بعد لقائها بعادل بيومين، لم تنم ليلًا.
كلماته الغامضة ظلت تدور في رأسها كدوامة.
“يمكن الولد ما بقاش زي ما تتوقعي.”
قررت أن تبحث بنفسها.
كانت تحتفظ بنسخة من وثيقة الولادة التي انتزعتها بصعوبة من أحد الممرضين القدماء،
وفيها رقم الدار التي أرسلوا الطفل إليها بعد ولادته.
كانت الورقة قديمة صفراء الأطراف،
لكن الرقم كان واضحًا: دار الأيتام رقم ١٤٥ – القاهرة.
شهقت وهي تقرأ الرقم.
“١٤٥؟! نفس الرقم اللي قالته الممرضة زمان!”
قامت بسرعة، ارتدت معطفها، وخرجت من البيت دون تفكير.
كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً،
لكنها لم تبالِ ببرودة الجوّ أو بخطورة التجول في هذا الوقت.
كل ما يملأ ذهنها هو أنها أخيرًا عرفت الطريق.
---
الدار رقم ١٤٥ كانت تقع في حيّ قديم بجانب المستشفى العام.
بوابة حديدية كبيرة تتوسطها لافتة باهتة.
وقفت ليلى أمامها تتنفس بصعوبة،
عيناها تلمعان بخليطٍ من الأمل والخوف.
طرقت الباب بخفة،
ثم بقوة حين لم يجب أحد.
بعد لحظات، خرج حارس مسنّ يحمل مصباحًا صغيرًا.
قال بنبرةٍ متشككة:
“عايزة إيه يا مدام؟ الوقت متأخر.”
– “أنا… كنت بدور على مدير الدار.”
– “المدير مشي من ساعة. تعالي بكرة الصبح.”
– “لازم أشوفه النهارده. الموضوع مهم جدًا.”
نظر إليها الرجل بشك، لكنه حين رأى دموعها، رقّ قلبه وقال:
“طب استني هنا شوية، هشوف لو في حد تاني.”
انتظرت دقائق طويلة،
كان المطر قد بدأ يتساقط من جديد، والبرد ينهش أطرافها،
لكنها لم تتحرك من مكانها.
وأخيرًا، عاد الحارس ومعه موظفة شابة تحمل دفترًا صغيرًا.
قالت الموظفة بلطفٍ حذر:
“أنا المسؤولة الليلة. حضرتك مين؟”
– “اسمي ليلى حسن… كنت بحاول أعرف إذا كان في طفل اتسجل عندكم من حوالي ١٨ سنة، اسمه آدم.”
رفعت الموظفة حاجبيها باستغراب:
“آدم؟ الاسم ده متسجل عندنا فعلاً… بس ده كبير دلوقتي، مش طفل.”
– “كبير؟! يعني لسه هنا؟!”
– “لأ، خرج من كام يوم، اشتغل في شركة كبيرة. اسمه الكامل في السجلات آدم — بس من غير لقب.”
وضعت ليلى يدها على صدرها،
كأن الكلمات سقطت عليها كصاعقة.
سألتها بصوتٍ مرتعش:
“تعرفي هو اشتغل فين؟ اسم الشركة إيه؟”
نظرت الموظفة في الدفتر وقالت:
“المهيب للاستثمار.”
تجمدت ليلى في مكانها.
كأن قلبها توقف عن النبض.
همست لنفسها:
“عادل… المهيب؟! لا يمكن تكون صدفة.”
رفعت رأسها نحو السماء الممطرة،
وهمست بصوتٍ خافتٍ كأنها تناجي القدر:
“ابني هناك… عنده هو.”
---
في تلك اللحظة نفسها،
كان “عادل” يقف أمام النافذة في مكتبه، يراقب المدينة النائمة.
أمسك بكأس الماء على مكتبه دون أن يشرب.
كان يشعر أن كل نفسٍ يتنفسه ثقيل،
وأن الماضي يقترب بخطواتٍ لا يسمعها أحد سواه.
مدّ يده إلى الدرج، أخرج مرة أخرى صورة الطفل،
ثم نظر إلى السماء وقال بصوتٍ خافت:
“يا رب، لو الزمن راجع، كنت اخترت أقول الحقيقة…
بس خلاص، فات الأوان.”
لكن القدر، الذي طال صمته،
كان يستعدّ للردّ.
---
تلك الليلة، حين وضعت ليلى رأسها على الوسادة، لم تغفُ.
كانت عيناها مفتوحتين على الظلام،
وفي داخلها سؤال واحد يشتعل:
"هل سأعرف ابني حين أراه؟"
وفي مكانٍ آخر،
كان آدم مستيقظًا على سريره الجديد في سكن الشركة،
ينظر إلى السقف ويفكر في الغد،
ولا يعلم أن اليوم القادم
سيكون أول مواجهةٍ حقيقية بينه وبين الماضي الذي لا يعرف أنه ماضيه.
---
الجزء الثاني
ظلال المدينة
كانت المدينة في الخارج تضج بالحياة، لكن ليلى شعرت أنها تقف في عالمٍ موازٍ، لا تسمع فيه سوى صدى خطواتها وارتعاشة قلبها وهي تمشي بين الشوارع القديمة. خرجت من المقهى بعد مكالمتها مع المحامية سلمى، وهي ما زالت تحاول أن تلتقط أنفاسها. كانت كلمات سلمى تتردد في أذنها كنبضٍ ثقيل:
> "فيه طرف تالت في القضية القديمة... شخص كان عارف الحقيقة وساكت من سنين."
توقفت ليلى عند الرصيف المقابل، تراقب السيارات التي تمرّ مسرعة. شعرت كأنها تسير عكس الزمن، كأن كل شيء في هذه المدينة يهرب منها، وهي الوحيدة التي تبحث عن ماضيها الضائع.
مدّت يدها تتحسس حقيبتها الصغيرة التي تحمل فيها كل أوراقها القديمة: شهادة ميلاد ابنها “آدم”، وصورتان باهتتان التُقطتا له في دار الرعاية عندما كان في عامه الأول. كانت تلك الصور هي ما تبقى من أمومتها المسروقة. نظرت إليهما طويلًا، إلى وجهه المستدير وابتسامته الصغيرة التي تشبهها، ثم أغلقت الحقيبة بخفة كأنها تخشى أن تهرب منها الذكريات.
---
دخلت إلى محطة الأتوبيس، وجلست على المقعد الأخير. الهواء الساخن الممزوج برائحة العادم جعلها تشعر بالدوار، لكنها لم تهتم. كانت تفكر فقط في الخطوة التالية:
دار الأيتام القديمة في حيّ “المقطم”، حيث أُودع ابنها منذ ثمانية عشر عامًا.
عندما وصلت أمام بوابة الدار، وقفت صامتة لبضع دقائق. المبنى لم يتغير كثيرًا، سوى أن الجدران اكتسبت لون الغبار، والنوافذ الخشبية بدت متآكلة من الزمن. ارتجفت أنفاسها وهي تلمس الباب الحديدي الذي يحمل لوحة معدنية كتب عليها:
> “دار النور للأيتام – تأسست عام 1983”.
طرقت الباب بخفة، ثم بقوة أكبر، حتى فتحت لها سيدة خمسينية ترتدي مريلة رمادية وملامحها صارمة.
– "أيوه يا مدام؟ حضرتك جاية لمين؟"
قالت ليلى بصوت متردد:
– "كنت بدور على ملف طفل قديم كان هنا من 18 سنة… اسمه آدم."
نظرت إليها المرأة بشك، ثم قالت ببرود:
– "الأرشيف القديم اتحرق في حريق من خمس سنين، يا ريت تكوني عارفة الاسم بالكامل أو عندك ورق رسمي."
مدّت ليلى يدها بسرعة وأخرجت من الحقيبة ورقة صفراء مطوية بعناية:
– "دي شهادة ميلاد آدم، ودي صورة ليه وهو رضيع."
تبدّلت نظرة المرأة قليلًا، ترددت لحظة ثم أشارت إليها بالدخول.
– "تعالي معايا، يمكن نلاقي حاجة في السجلات اللي اتنقلت للمخزن."
---
مرّتا عبر ممر طويل ضيق تملؤه رائحة الرطوبة. كانت الجدران مغطاة بصور أطفالٍ يتامى يحملون ورودًا في حفلات قديمة. كل صورة كانت تطعن قلب ليلى كأنها سكين. كم من هؤلاء الصغار تربوا بلا أم؟ وكم واحدة مثلي كانت خلف الأسوار تبكي ابنها ولا تعرف أين صار؟
توقفت المرأة أمام غرفة صغيرة مضاءة بمصباح أصفر باهت. فتحت خزانة حديدية قديمة وبدأت تقلب في الملفات واحدًا تلو الآخر. كان الغبار يتطاير في الهواء بينما يدها تبحث بتوتر.
قالت ليلى بصوت خافت:
– "هو كان هنا سنتين تقريبًا، بعدين اتنقل لمكان تاني… كده قالولي قبل ما أخرج."
ردّت المرأة وهي تتابع بحثها:
– "فيه دفاتر فيها أسماء الأطفال اللي تم نقلهم أو تم تبنيهم. بس معظمها ناقص."
مرت دقائق بدت لليلى كأنها ساعات، حتى توقفت المرأة فجأة وسحبت ملفًا صغيرًا بنية الحواف.
– "استني... أهو، عندنا طفل اسمه آدم، دخل الدار سنة 2008 وغادر سنة 2010، تم تبنيه رسميًا بمعرفة عائلة اسمها “عائلة العدل”."
شحب وجه ليلى تمامًا، كأن الدم انسحب من جسدها.
– "تبنّوه؟!"
– "أيوه، فيه توقيع رسمي من وزارة الشؤون الاجتماعية، وعنوان العائلة في الزمالك."
أمسكت ليلى الورقة بيد مرتجفة. قرأت العنوان وكأنها تحفظه في ذاكرتها حرفًا حرفًا. ثم نظرت إلى المرأة بعينين دامعتين:
– "ممكن آخد نسخة من الملف ده؟"
– "ما نقدرش نطلع نسخ، بس هكتبهولك على ورقة، وربنا يسهل."
خرجت ليلى من الدار بخطوات متعثرة، والنسخة الورقية في يدها. كانت الشمس تغرب ببطء، وأشعتها تصبغ الشوارع بلونٍ ذهبيٍ حزين.
---
في طريقها إلى شقتها الصغيرة في “روض الفرج”، لم تتوقف عن التفكير في اسم “عائلة العدل”. لم تسمع به من قبل، لكنها شعرت أن الاسم يحمل معنى ثقيلًا، كأنه سخرية قدرية من حياتها.
تساءلت:
> "هل عاش آدم حياة سعيدة معاهم؟ هل نادين كانت تعرف إنهم تبنّوه؟ وهل ممكن يكونوا عارفين الحقيقة؟"
في الليل، جلست على سريرها القديم الذي اشتراه لها جارها الطيب “عم يوسف” من سوق المستعمل. وضعت الورقة أمامها، وأشعلت مصباح الطاولة. لم تكن تملك سوى هذا الخيط الرفيع، لكنها كانت مستعدة لأن تمسك به حتى النهاية.
بدأت تكتب في دفترها بخطٍ مهتز:
> "عائلة العدل، الزمالك، شارع النيل، رقم ٢٧... البداية من هنا."
ثم أغلقت الدفتر وقالت بصوتٍ حاسم:
– "النهارده أول خطوة حقيقية يا آدم."
---
في صباح اليوم التالي، ارتدت ليلى فستانًا داكنًا بسيطًا، ووضعت وشاحًا على كتفيها. نظرت في المرآة للحظة، لم تتعرف على نفسها. كانت التجاعيد تحيط بعينيها، وشعرها اختلط فيه الرمادي بالسواد، لكن في نظرتها كان هناك شيء جديد: إصرار.
استقلت سيارة أجرة متجهة إلى الزمالك. الطريق كان طويلاً بسبب الزحام، لكن قلبها كان يسبقها. كانت تنظر من النافذة إلى النيل الممتد على يمينها، يتلألأ تحت ضوء الشمس. تذكرت أيام شبابها قبل السجن، حين كانت تأتي هنا مع صديقتها “منى” لتشربا القهوة على ضفاف النهر وتحلما بالمستقبل.
وصلت أخيرًا إلى شارع أنيق تحيطه الأشجار العالية. أمام البناية رقم 27 وقفت ليلى للحظات تتأمل الواجهة الفخمة المزخرفة بالرخام الأبيض. لم يبدُ المكان مناسبًا لطفلٍ يتيم من دار الأيتام… لكنه الآن أصبح شابًا في العشرين تقريبًا، يعيش هنا بين الثراء والهدوء.
اقتربت من البوّاب وسألته:
– "من فضلك، أنا بدوّر على عائلة العدل، هما في الدور الكام؟"
– "آه، حضرتك تقصدي الأستاذ سامي العدل؟ الدور الرابع. تحبي أبلغهم إنك طالبة تقابليه؟"
– "لأ، شكراً… هاطلع بنفسي."
---
دخلت المصعد، وكان قلبها يخفق بعنف. في كل طابق يرتفع، كانت تشعر أن الهواء يضيق من حولها، وأن صوت الماضي يهمس في أذنها: هل أنتِ مستعدة؟
عندما فتحت الباب في الطابق الرابع، وجدت أمامها شقة واسعة ذات باب خشبي فخم. ضغطت على الجرس بخفة، ثم انتظرت.
بعد ثوانٍ، فُتح الباب، وظهرت أمامها شابة أنيقة في منتصف العشرينات، بشعر أسود قصير وعينين لامعتين.
– "نعم؟ مين حضرتك؟"
ابتلعت ليلى ريقها بصعوبة، وقالت بهدوءٍ متعثر:
– "أنا... كنت جاية أسأل عن شاب اسمه آدم العدل. سمعت إنه عايش هنا."
تجمدت ملامح الفتاة للحظة، ثم تمالكت نفسها وقالت:
– "آدم أخويا... بس هو مش موجود دلوقتي. حضرتك منين؟"
نظرت ليلى في عينيها، وفي داخلها كانت العاصفة تشتعل. شعرت بشيء غريب، مزيج من الفرح والرهبة والدهشة.
هل هذه الشابة تعرف من تكون هي؟
هل تعرف أن “آدم” ليس أخاها بل ابنها؟
قالت بصوتٍ خافت:
– "أنا... كنت أعرفه زمان. كنت محتاجة بس أسأل عن حاله."
ابتسمت الفتاة بلباقة:
– "أكيد، بس هو مشغول حاليًا في الجامعة، بيرجع آخر النهار. ممكن تسيبي رقمك؟"
هزّت ليلى رأسها:
– "لا، مش ضروري... أنا هارجع تاني."
ثم استدارت ببطء ونزلت السلم. كل خطوة كانت تئنّ تحت قدميها كأنها تنكسر.
لكن داخلها، رغم الارتباك، كان هناك يقين صغير ينمو:
لقد اقتربت.
الطريق لم يعد مجهولًا.
---
عادت إلى الشارع، ووقفت تتنفس بعمق. الريح كانت دافئة، محمّلة برائحة البحر البعيدة، وكأن المدينة نفسها تهمس لها أن الأبواب بدأت تُفتح.
همست لنفسها:
> "أنا شوفت بيته... شوفت المكان اللي عاش فيه... المرة الجاية هشوفه هو."
ثم تابعت سيرها ببطء، تحمل في صدرها مزيجًا من الخوف والأمل، بينما الغروب يرسم السماء بلونٍ نحاسيٍ دافئ، كأنه وعدٌ صامت ببداية جديدة.
