google.com, pub-6802150628270214, DIRECT, f08c47fec0942fa0 حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل الاول
أخر الاخبار

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل الاول

 حق مكتسب 

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل الاول

بقلم اسماء ندا 

 الفصل الأول: الخُدعة

الجزء الأول


كانت “ليلى” تؤمن أن الخير لا يضيع، وأن الله لا يخذل قلبًا صادقًا مهما اشتدت العواصف.

عاشت حياتها ببساطة امرأة لم تطلب من الدنيا أكثر من سقفٍ يؤويها، وراحةٍ تسكن صدرها آخر الليل. تعمل خياطةً في محل صغير، تجلس وراء ماكينة الخياطة كأنها عازفة على وترٍ من خيوط وأقمشة، وتخيط أحلام غيرها بيديها الضعيفتين.


كانت في شهرها السادس من الحمل، يملأها الحنين لطفلٍ لم تره بعد، وتخاف عليه من كل نسمة تمر بجانبها. تضع يدها على بطنها وتبتسم، كأنها تكلّمه:

“لسّه شوية يا حبيبي، وهنعيش مع بعض في بيت صغير… أنا وإنت وبس.”


لكن الأيام لا تمنح الطيبين فرصة طويلة للراحة.


في صباحٍ رماديّ من صباحات الشتاء، رنّ هاتفها البسيط بصوتٍ لم تعهده من قبل. كانت المتصلة سيدة بنبرة آمرة:

“أنتِ ليلى الخيّاطة؟”

– “أيوه يا فندم.”

– “أنا نادين المهيب… محتاجة حضرتك تيجي الفيلا تصلّحي فستان مهم قبل حفلة الليلة. هبعتلك السواق دلوقتي.”


تردّدت ليلى قليلًا، فاسم “المهيب” ليس غريبًا عنها. كانت تسمع عنه في الأخبار والمجلات، عائلة من أغنياء القاهرة، تملك شركات وعقارات وعلاقات لا تنتهي. لكن الحاجة أقوى من الخوف، فوافقت.


بعد ساعة، كانت السيارة الفارهة تقف أمام محلها الصغير، يقودها سائق ببدلة رسمية. نظرت ليلى من شباك السيارة إلى الشوارع التي تمر بها، كأنها تنتقل من عالمٍ إلى آخر.

البيوت تتبدّل، الأرصفة تزداد اتساعًا، والهدوء يصبح مريبًا كلما اقتربت من حيّ المهاجرين الراقي حيث تقع فيلا “المهيب”.


عند البوابة الحديدية الكبيرة، استقبلتها خادمة ترتدي زيًّا أبيض أنيقًا، وقادتها إلى داخل القصر. كانت الألوان الزاهية، واللوحات الضخمة، والسجاد الفاخر يملأ المكان. كل شيء فيه يصرخ بالترف والسلطة.


دخلت غرفة الجلوس، فرأت “نادين” لأول مرة.

امرأة في أواخر الثلاثين، ذات وجهٍ جميل بارد الملامح، ترتدي فستانًا أبيض لامعًا، وعلى معصمها ساعة ذهبية تكاد تضيء.

ابتسمت لها ببرود وقالت:

“تفضلي… دا الفستان، محتاجة تضبّطي الخصر شوية، بكرة عندي مناسبة مهمة جدًا.”


بدأت ليلى العمل بهدوء، تجتهد بكل ما تملك من دقة، بينما كانت نادين تتحدث في الهاتف بصوتٍ مرتفع عن اجتماعٍ وصفقةٍ وسفرٍ قريب. لم تكن توليها اهتمامًا، لكنها بين كل جملة وأخرى كانت تنظر إليها نظرة سريعة، كأنها تزنها بنظراتها.


بعد ساعات من العمل، أتمّت ليلى التعديلات، وطلبت الانصراف.

قالت نادين بنبرة ودودة هذه المرة:

“خليكي ترتاحي في غرفة الضيوف، الجو برد برا، والسواق مشغول شوية، لما يخلص هيوصلك.”


تردّدت ليلى، لكنها وافقت على مضض، فالتعب غلبها.

صعدت إلى الغرفة الصغيرة في الطابق العلوي، حيث السرير الناعم والمصباح الهادئ. وضعت رأسها على الوسادة وغفت.


لم تعلم أن نومها هذا سيكون فاصلًا بين حياتين.


استيقظت فجأة على أصوات خطوات وصرخات، وأضواء الكشافات تتسلل من الباب.

دخل رجال الشرطة، يحملون أوامر تفتيش، وصوتٌ غاضب يقول:

“فين هي؟! الغرفة دي!”


وقفت ليلى مذهولة، يداها ترتجفان، بطنها يثقلها، لا تفهم ما يحدث.

أحد الضباط يفتح حقيبتها الصغيرة الموضوعة على الكرسي… ويخرج منها كيسًا مليئًا بمسحوق أبيض.


“دي بتاعتك؟!”

– “إيه دا؟! لا والله العظيم مش بتاعتي! أنا معرفش دا إيه!”


لكن الصدمة الأكبر حين رأت “نادين” تدخل الغرفة بهدوء خلفهم، تمسك بيدها منديلاً صغيرًا، وتنظر إليها بنظرة لم تفهمها ليلى… خليط من الندم والبرود والغرور.

قالت للضابط بصوتٍ حزين مصطنع:

“يا للأسف… كنت واثقة فيها.”


في لحظة، انهار كل شيء.

اقتيدت ليلى وسط دموعها وارتباكها، لم يفهم أحد منها شيئًا، ولا حاول أحد أن يسمعها.


في قسم الشرطة، أمضت ساعات طويلة من التحقيق. الأسئلة تنهال عليها:

“مين جابلك المخدرات؟ كنتِ فين قبل كده؟ تعرفي مين من رجال الأعمال؟”

كانت تبكي وتصرخ، وتردد الجملة نفسها:

“أنا بريئة! الفستان هو اللي جابني هنا!”


لكن الحقيقة لم تكن تهم أحدًا. كانت القضية جاهزة، والأسماء مكتوبة، والأوامر صادرة.

اسم “نادين المهيب” لم يُذكر في أي محضر، كأنها لم تكن موجودة.



---


في اليوم التالي، وقفت “ليلى” أمام القاضي، بوجهٍ شاحب وبطنٍ يثقلها الحمل.

المحامي المكلّف عنها بالكاد يعرف اسمها، والنيابة تطلب أشد العقوبة.

قال القاضي ببرودٍ وهو يطرق بمطرقته:

“الحكم بالسجن عشرين عامًا بتهمة حيازة مواد مخدرة بقصد الترويج.”


سمعت الجملة تتردد داخل رأسها كصوتٍ بعيدٍ من تحت الماء.

حاولت أن تتكلم، لكن صوتها خرج مبحوحًا:

“أنا… حامل يا سيادة القاضي… أنا مظلومة.”

لكن أحدًا لم يلتفت إليها.



---


في السجن، كان كل شيء مختلفًا عن العالم الذي تعرفه.

الأسوار العالية، الأبواب الحديدية، الصرخات التي لا تنتهي، والوجوه التي فقدت الإيمان بالسماء.

في أول ليلة، جلست على السرير المعدني تبكي حتى جفّت دموعها.

كانت تفكر في طفلها الذي يكبر داخلها يومًا بعد يوم… في الشهور القادمة التي ستأتي وهي خلف القضبان.


كانت بعض السجينات ينظرن إليها بشفقة، وأخريات بسخرية.

قالت لها واحدة ذات وجه قاسٍ:

“مفيش بريء بيدخل هنا يا حلوة… كلنا بريئات!”

ثم ضحكت ضحكة خشنة جعلت قلب ليلى ينكمش.


لكنها لم ترد. كانت تعلم في أعماقها أن الصمت هو السلاح الوحيد الباقي لها.

كل ليلة كانت تضع يدها على بطنها وتهمس:

“هتفضل جوّاي لحد ما أخرج، ومهما حصل مش هخليك لوحدك.”


كانت تؤمن أن الله لن يخذلها.

لم تكن تعرف أن الظلم أحيانًا يطول أكثر مما يحتمل القلب.



---


في الأيام التالية، بدأت تتأقلم مع روتين السجن. العمل، الطوابير، العدّ، الطعام البارد، وعيون المراقبين.

لكن داخلها كان عالم آخر ينمو — عالم صغير ينبض بالحياة، يجعلها تتحمل.


كانت تكتب بخيالها رسائل لطفلها المنتظر، تحفظها في ذاكرتها، وتعيدها كل ليلة كأنها ترسلها إلى بطنها.

تقول فيها:


> “لو خرجت قبلي، استناني.

لو شفت النور، متخافش من الضلمة.

أنا هنا علشانك، وهفضل أحبك مهما بعدت.”




في ذلك المكان الذي لا يعرف الرحمة، كان الأمل هو المعجزة الوحيدة التي تمتلكها.


لكن القدر كان يخبئ لها ما هو أقسى.

في اليوم الذي وضعت فيه طفلها، أدركت أن الله منحها الحياة مرتين: مرة وهي تولد، ومرة وهي تُنجب خلف الأسوار.

---


🌸 الفصل الأول: الخُدعة
الجزء الثاني – ليلة الولادة


مرت الشهور ثقيلة كأنها سنوات، تحسبها ليلى يوماً بيوم، تنتظر النهاية ولا تأتي.

في السجن، لا تملك الوقت سوى التفكير، ولا تملك الرفاهية سوى الصبر.

كانت تتغير ببطء، وجهها شاحب، يديها أرهقهما الغسيل والعمل الشاق، لكن في عينيها ظلّ بريق صغير لا ينطفئ، بريق الأم التي تنتظر معجزة.


كانت بعض السجينات يتهامسن حولها، يسمينها "الطيبة"، وأحيانًا "المجنونة اللي بتكلم بطنها". لكنها لم تهتم.

كل ليلة كانت تتحدث إلى جنينها كأنه يسمعها:

"أنا هنا يا حبيبي... متخافش.

الناس كلها فاكرة إننا لوحدنا، بس ربنا شايفنا."


ذات مساء من شهر ديسمبر، هبّت عاصفة شديدة.

كانت السماء تمطر، والرياح تصفر كأنها تصرخ مع من في الداخل.

جلست ليلى على سريرها تتألم بصمت. بدأ الألم في أسفل بطنها، ثم ارتفع تدريجيًا حتى صار موجات من النار تشتعل فيها.

صرخت، فاقتربت منها السجينات، بعضها مذعور، وبعضها متعاطف.

إحداهن نادت الحارسة بأعلى صوتها:

"يا نَبَه! دي هتولد!"


تأخرت الاستجابة. في السجن، لا أحد يستعجل في النجدة، حتى الألم له دور انتظار.

لكن حين اشتد صراخها، فُتح الباب أخيرًا، ودخلت الحارسة بنظرة باردة كعادتها.

نادت على الممرضة، وأُخذت ليلى إلى غرفة صغيرة باردة ذات جدران باهتة، فيها سرير حديدي ومصباح يترنح.

لم يكن هناك طبيب، فقط ممرضة خشنة الملامح قالت وهي ترتدي قفازاتها:

"شدّي نفسك... خدي نفس... ما فيش داعي للصريخ، محدش هيسمعك."


كانت ليلى تصرخ ليس من الألم فقط، بل من الإهانة، من الغربة، من فكرة أن أول صوت سيسمعه طفلها سيكون بين الجدران الحديدية.

لكنها تمسكت بالحياة، قاومت، وصرخت بأعلى صوتها، حتى دوّى صوته في الممرات الطويلة.

ثم… جاء الصوت الآخر.

بكاء صغير، ضعيف، لكنه هزّ جدران السجن كلها.


دموعها انهمرت بلا توقف، مدت يديها المرتجفتين واحتضنته.

كان صغيرًا، مبللًا بالدموع والعرق، لكنه أجمل ما رأت في حياتها.

همست باسمه دون تردد:

"آدم… اسمه آدم."


لم يكن الاسم صدفة.

آدم أول الخلق، أول بداية، رمز الحياة بعد الخطيئة… وهي أرادت أن يكون ابنها بداية جديدة لا نهاية حزنها.



---


مرت الأيام الأولى بسرعة، وبدأت ليلى تتعلم كيف تكون أمًا خلف القضبان.

كانت ترضعه في الزنزانة، وتغني له أغنيات الطفولة التي كانت تحفظها من أمها.

وحين ينام، تجلس تحدّق في وجهه الصغير وتفكر:

هل سيرى العالم يومًا؟

هل سيعرف كم قاتلت لأجله؟


كانت بعض السجينات يساعدنها، يخبزن له القليل من الخبز الناشف، أو يحكن له قبعة من القماش البالي.

حتى الحارسة، التي بدت قاسية، كانت أحيانًا تترك لها زجاجة حليب إضافية دون أن تتكلم.

في ذلك المكان المظلم، وُجدت لحظات صغيرة من الرحمة، كشمعة في نفقٍ طويل.


لكن ليلى كانت تعرف أن الوقت ليس في صفها.

قانون السجن لا يسمح ببقاء الأطفال أكثر من عامين.

بعدها، يُفصل الطفل عن أمه، مهما كانت توسلاتها، ويُرسل إلى دار الأيتام.

كانت تحاول ألا تفكر في ذلك اليوم، لكنها كانت تشعر به يقترب مع كل نفس من أنفاس ابنها.



---


في عامه الأول، كان آدم كل حياتها.

يتعلم الزحف على الأرض الباردة، يضحك لظلّ أمه على الحائط، ويمسك بإصبعها كأنه يمسك بالعالم كله.

كانت تنسى السجن حين تنظر إليه، وتبتسم له حتى في أحلك الليالي.

تقول له دائمًا:

"انت السبب اللي بيخليني أتنفس، يا آدم.

أول ما نخرج، هوريك البحر، وهجيبلك بلونة لونها سما."


لكن في عامه الثاني، تغيّر كل شيء.

جاءت إدارة السجن بأوامر جديدة: نقل كل الأطفال فوق العامين إلى دور الرعاية.

حين سمعت ليلى الخبر، شعرت كأن الأرض انسحبت من تحت قدميها.

ذهبت إلى مأمورة السجن ترجوه، تترجى، تبكي:

"ده ابني الوحيد، خلّوه معايا شوية، بس سنة كمان… أنا هربّيه هنا، مش هيسببلكم مشكلة!"

لكن الرد جاء قاسيًا:

"دي تعليمات، مش بإيدي حاجة."


في تلك الليلة، لم تنم.

احتضنت طفلها طوال الليل، كأنها تحاول أن تحفظ ملامحه في ذاكرتها قبل أن يُنتزع منها.

تلمس شعره، تنظر لعينيه، وتهمس باسمه آلاف المرات:

"آدم… آدم… آدم."


وفي الصباح، حين جاء الحارس ومعه الممرضة، قاومت بكل ما تملك.

صرخت، توسلت، تشبثت بطفلها حتى تمزقت ثيابها.

آدم كان يبكي هو الآخر، صوته يملأ المكان، ووجهه يختفي بين أيدي الغرباء.


"سيبوهولي… دا ابني… هتموتوه بعيد عني!"

لكن أحدًا لم يسمعها.


وبينما كانت تُقيّد لتمنعها من اللحاق به، رأت وجهه الصغير للمرة الأخيرة.

وجه مبلل بالدموع، يُرفع عاليًا وسط الزحام.

ثم اختفى خلف الباب الحديدي.


صوت انغلاق الباب كان كصفعةٍ على روحها.

تجمدت في مكانها، ثم سقطت على الأرض، وجهها على البلاط البارد.

لم تصرخ هذه المرة، لم تبكِ…

فقد تعلمت أن الألم حين يتجاوز الحد، لا يخرج بصوت.



---


منذ ذلك اليوم، لم تعد ليلى كما كانت.

صمتت طويلاً، لا تتكلم إلا نادرًا.

كانت تعمل بصمت، تأكل بصمت، وتنام بعيون مفتوحة.

لم تعد ترى العالم، فقط تتخيل وجهه في كل مكان.


مرت الأسابيع، ثم الشهور، ثم السنوات.

أحيانًا كانت تحلم به: طفلًا يجري في حقلٍ واسع، يضحك ويناديها، لكنها حين تمد يديها نحوه يختفي كدخان.

تستيقظ على دموعها وهي تهمس:

"استناني يا آدم… يوم ما أخرج، هجيلك حتى لو الدنيا كلها وقفت في وشي."


في قلب السجن، زرعت وعدًا بينها وبين الله، أن لا تخرج إلا لتستعيد ابنها.

كان ذلك الوعد هو الشيء الوحيد الذي أبقاها على قيد الحياة.



---


في أحد الأيام، وبعد ثمانية عشر عامًا من الظلم، استدعتها إدارة السجن.

دخلت غرفة المأمورة بخطوات مترددة، وعيناها تبحثان عن سبب الاستدعاء.

جلست، وسمعت كلمات لم تفهمها في البداية:

“صدر قرار بالعفو عنك يا ليلى مصطفى… بعد ظهور أدلة جديدة.”


رفعت رأسها، تنظر إلى المرأة التي نطقت بتلك الجملة كأنها تتحدث عن خبرٍ عادي.

“أدلة؟! إيه الأدلة؟!”

– “اعتراف من نادين المهيب… قبل ما تموت. اعترفت إنها السبب في كل اللي حصل، وإنك بريئة. المحكمة صدقت على العفو. وهتاخدي كمان تعويض مالي… مليون دولار.”


ظلت ليلى صامتة لثوانٍ طويلة.

مليون دولار؟!

كلمة لم تعرف معناها إلا في الأخبار، لكنها الآن تُقال لها كجائزة بعد عمرٍ من العذاب.

ابتسمت ابتسامة باهتة وقالت بهدوءٍ غريب:

"أنا مش عايزة فلوس… عايزة ابني."


نظرت المأمورة إليها بشيء من الحرج وقالت:

"ابنك؟ دار الأيتام اللي كان فيها اتحرقت من سنين… مفيش سجل واضح. بس ممكن المحامي يساعدك."


المحامي؟! التعويض؟!

كلها كلمات لم تصل إلى قلبها، لأنه لم يعد فيه مكان لأي شيء سوى اسمٍ واحد:

آدم.


---


خرجت من السجن بعد ثمانية عشر عامًا، تمشي ببطء نحو الضوء الذي أعمى عينيها.

الشمس كانت ساطعة على نحوٍ مؤلم، كأنها لا ترحب بها.

المدينة تغيّرت، الناس تغيّروا، وهي وحدها بقيت أسيرة الزمن القديم.


في يدها ورقة الإفراج، وفي قلبها جرح لا يندمل.

رفعت رأسها نحو السماء، وأغمضت عينيها، وهمست بصوتٍ مرتجف:

"يا رب… اديني بس أشوفه مرة واحدة.

مش عايزة دنيا، ولا تعويض، ولا حق… عايزة ابني."


كانت تعلم أن رحلة جديدة بدأت الآن — رحلة البحث عن آدم، ابنها الذي خُطف منها ظلمًا.

لكنها لم تكن تعرف أن طريقها إليه لن يكون طريقًا للقاء فقط… بل طريقًا لاكتشاف أسرار أكبر بكثير مما تتخيل.


🌸 الفصل الأول: الخُدعة
الجزء الثالث – الحرية المُرّة


الهواء في الخارج كان مختلفًا، له طعمٌ غريب كطعم الحرية بعد طول الأسر، لكنه لا يشبه الحلم كما ظنت “ليلى”.

حين فتحت البوابة الكبيرة خلفها، شعرت أن العالم اتسع فجأة، لكنها هي تقلّصت.

الناس تمشي بسرعة، السيارات تصرخ أبواقها، والألوان كثيرة جدًا على عينيها التي اعتادت الرمادي.


وقفت لحظة، تتنفس بعمق كأنها تحاول ملء رئتيها بالحياة بعد سنين من العفن والرطوبة.

رفعت رأسها للسماء وقالت في نفسها:

"كنت فاكرة الحرية فرحة… بس شكلها وجع تاني."


كان في انتظارها رجل أربعيني أنيق يحمل حقيبة جلدية ونظارات سميكة، اقترب منها بابتسامة رسمية وقال:

“أستاذة ليلى؟ أنا المحامي المكلّف بقضيتك، اسمي حسام البدري.”


هزّت رأسها بخفوت، ولم تنطق.

تابع حديثه وهو يناولها ظرفًا:

“فيه شيك بمليون دولار، تعويض رسمي عن فترة السجن. وكمان فيه العنوان اللي ممكن تراجعي فيه المستندات لو حبيتي تطالبي بحقك المدني.”


نظرت إلى الظرف دون أن تمد يدها.

مال وجهها الضعيف للأرض وقالت بصوتٍ منخفض:

“حقّي مش في الورق دا، ولا في الفلوس.

ابني فين؟”


تنهّد المحامي وأخرج من حقيبته ملفًا صغيرًا، قلّب فيه أوراقًا وقال مترددًا:

“في الحقيقة… حاولت أبحث في أرشيف دار الأيتام اللي اتنقل ليها ابنك، لكن السجلات اتحرقت في حادث من حوالي عشر سنين. كل الأطفال اتفرقوا بعدها على مؤسسات تانية، وبعضهم اتبنّى.”


كلمة “اتبنّى” سقطت على أذنها كرصاصة.

اتبنّى؟ يعني ابنها صار يحمل اسم غيرها؟ يعيش بين غرباء؟

سكتت لحظة ثم قالت بعينين دامعتين:

“يعني هو عايش…؟”

– “مش متأكد يا أستاذة ليلى، بس هنحاول نوصّل لأي أثر.”


شكرته بصوتٍ مبحوح، ثم أخذت الظرف على مضض.

خرجت من المكتب بخطوات بطيئة، كأنها تخاف أن تسقط الأرض من تحتها في أي لحظة.


---


لم تكن تعرف إلى أين تذهب.

لا بيت، لا أهل، لا أصدقاء.

الكل ابتعد أو رحل مع الزمن.

تذكرت محل الخياطة القديم، لكنه لم يعد موجودًا.

في مكانه الآن مقهى حديث، وشاشة إعلانات ضخمة تعرض وجوهًا لا تعرفها.


جلست على الرصيف المقابل، تنظر إلى العالم الذي تغيّر دونها.

حتى رائحة المدينة لم تعد كما كانت.

كانت تفكر: “الناس بتتحرك كأنهم مفيش وجع في الدنيا… وأنا وجعي واقف في قلبي زي حجر.”


مدّت يدها في جيبها وأخرجت الصورة الوحيدة التي استطاعت الاحتفاظ بها داخل السجن، صورة لرسمة بسيطة كانت إحدى السجينات قد رسمتها لها:

امرأة تحمل طفلًا صغيرًا بين يديها.

كانت تلك الورقة كل ما تملكه من أمومتها.


وضعتها على ركبتيها وقالت في همسٍ يشبه الدعاء:

"أنا خارجة علشانك يا آدم.

لو الدنيا كلها وقفت ضدي، مش هسيبك تاني."


---


في اليوم التالي، ذهبت إلى الفندق البسيط الذي حجزه لها المحامي، كانت الغرفة صغيرة لكنها دافئة.

في الليل، لم تستطع النوم. جلست أمام النافذة تحدّق في الأضواء البعيدة، وبدأت تقرأ الملف الذي سُلِّم لها مع التعويض.


بين الأوراق، وجدت تقريرًا غريبًا بخط يد قديم ومهزوز، موقّع باسم “نادين المهيب”.

كانت تلك الرسالة مرفقة باعترافها الرسمي، لكن أسفلها بخط مختلف، وجدت سطرًا إضافيًا لم يُذكر في المحضر الرسمي:


> “إلى من ظلمتها يدي…

إن كان هناك عدل في السماء، فسيصلها هذا الكلام.

لم يكن ذنبك أنك صدّقتيني.

ابنك ما كان يجب أن يُؤخذ منك، لكني لم أستطع إيقاف ما حدث بعد فوات الأوان.

لو أردتِ الحقيقة، فابحثي عن البيت رقم (١٢) في شارع النخيل القديم… هناك ستعرفين كل شيء.”



تسارعت أنفاس ليلى، أعادت قراءة الجملة مرارًا.

بيت رقم (١٢)؟ شارع النخيل؟

ما الذي يمكن أن تجده هناك بعد كل هذه السنين؟


لكن قلبها أخبرها أن تلك هي أول خيوط الحقيقة.


---


في الصباح، خرجت باكرًا.

ركبت حافلة صغيرة متجهة إلى ضاحية قديمة في أطراف القاهرة.

كانت الشوارع هناك مختلفة عن وسط المدينة، هادئة، مطلية بغبار الزمن.

سألت أحد المارة عن شارع النخيل، فأشار إلى طريق جانبي ضيق تظلله أشجار مهجورة.


مشيت حتى وصلت إلى بيت قديم، على بابه لوحة معدنية باهتة كُتب عليها الرقم “١٢”.

ترددت قليلًا، ثم طرقت الباب.

لم يجب أحد.

كررت الطرق، حتى خرجت امرأة مسنّة ملامحها طيبة، ترتدي طرحة رمادية وتحمل بيدها كوب شاي.


“نعم يا بنتي؟”

– “لو سمحتي، أنا بدوّر على حد اسمه نادين المهيب… أو أي حد كان يعرفها.”

تغيّر وجه المرأة فجأة، نظرت إليها طويلًا ثم قالت:

“نادين؟ دي ماتت من أكتر من عشر سنين يا بنتي… إنتِ مالك بيها؟”

– “كانت سبب في حكايتي كلها، وأنا بدوّر على ابني… قالتلي أدور هنا.”


أشارت المرأة أن تدخل.

دخلت ليلى بخطوات مترددة، كانت رائحة المكان تشبه الماضي — رائحة ورق قديم وخشب عتيق.

جلست، فأحضرت لها السيدة كوب ماء وقالت بهدوء:

“أنا كنت شغالة عندهم زمان. نادين كانت ساكنة هنا قبل ما تتجوز الراجل الكبير اللي عملها ست الناس.

لكن قبل ما تمشي، حصلت حاجة غريبة… جابت بنت صغيرة معاها، قالت إنها بنت أختها، وفضلت مربية هنا سنتين وبعدين اختفوا الاتنين.”


شهقت ليلى دون وعي.

“بنت؟! يعني نادين كان عندها بنت؟!”

– “كانت بتقول كده، بس أنا مش مقتنعة… البنت كانت شبههاش، وكان في بينهم خوف غريب، مش علاقة أم ببنتها.”


بقيت ليلى صامتة لحظة طويلة.

ثم سألتها:

“تعرفي اسم البنت دي؟”

– “كانوا بينادوها سارة… بس في شهادة الميلاد اللي شفتها مرة، مكتوب اسم الأب: ع. مهيب.”


ارتجفت أصابع ليلى.

ع. مهيب؟!

يعني زوج نادين؟

يعني ممكن يكون آدم… مش بس ابنها هي، لكن كمان ابن الراجل اللي سجنها؟


دار كل شيء في رأسها كإعصار.

الصدمة، الأسئلة، الغضب، والخوف.

خرجت من البيت مسرعة، والسماء ملبّدة بغيومٍ داكنة كأنها تشاركها اضطرابها.


مشَت في الشارع دون أن تعرف إلى أين.

كل ما تسمعه هو صدى اسم ابنها في عقلها:

"آدم… آدم… يمكن لسه عايش."

---


في المساء، عادت إلى الفندق، وفتحت النافذة.

كانت القاهرة في الليل تلمع بأنوارها البعيدة، بينما قلبها مظلمٌ بالحيرة.

جلست تكتب في دفتر صغير حصلت عليه بعد خروجها من السجن، كأنها تكتب لابنها رسالة في الغيب:


> “يا آدم،

لو كنت بتقرأ الكلام ده في أي مكان، اعرف إن أمك لسه عايشة علشانك.

يمكن الدنيا خدتنا من بعض، ويمكن الناس ظلمونا، بس أنا راجعة.

وهفضل أدور عليك، لحد ما ألاقيك، أو أموت وأنا بحاول.”


أغلقت الدفتر، وأطفأت النور.

لكن عينيها ظلّتا مفتوحتين، ترقبان أول خيط للفجر الذي سيبدأ معه فصل جديد من حياتها — فصل البحث، والوجع، والأمل.


في مكانٍ ما في المدينة، ربما لم تكن تعرفه بعد، كان شاب في الثامنة عشرة من عمره يستيقظ من كابوسٍ غريب يرى فيه وجه امرأة تبكي وتناديه باسمه: “آدم”.

جلس على سريره في دار قديم للأيتام، وضع يده على صدره وقال بصوتٍ خافت:

“مين دي؟ وليه بحلم بيها كل ليلة؟”



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-