google.com, pub-6802150628270214, DIRECT, f08c47fec0942fa0 حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل الثاني
أخر الاخبار

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل الثاني

 حق مكتسب

حق مكتسب بقلم اسماء ندا الفصل الثاني

 بقلم اسماء ندا 
 الفصل الثاني صوت في الحُلم
الجزء الأول 

 مَن تكونين يا امرأة الدموع؟


كان الليل ساكنًا فوق دار الأيتام كأن الزمن توقف عند أسواره العالية.

غرف صغيرة متلاصقة، شبابيكها ضيقة، والجدران متآكلة من الرطوبة.

في الطابق الأخير، كان "آدم" مستلقيًا على سريره الحديدي القديم، يتقلب بين النوم واليقظة.

منذ أسابيعٍ لا ينام بسلام.

كلما أغمض عينيه، يسمع صوتًا ناعمًا يبكي ويهمس باسمه:

"آدم... يا حبيبي، سامحني."


ينتفض من نومه وهو يلهث كمن خرج من تحت الماء.

ينظر حوله فلا يرى أحدًا، فقط ظلال الليل تتراقص على الحائط كأشباحٍ هادئة.


جلس على طرف السرير، وضع كفّيه على وجهه وقال بصوتٍ مبحوح:

“نفس الحلم تاني… مين الست دي؟ وليه بحس إن قلبي بيتخنق كل مرة بسمع صوتها؟”



---


في الغرفة المجاورة، كان صديقه الوحيد “كريم” مستيقظًا أيضًا.

شابٌ مرح، يعيش في الدار منذ كان طفلًا، لكنه لم يفقد حس الدعابة رغم الفقر.

أطلّ برأسه من وراء الباب وقال وهو يضحك بخفوت:

“بتكلم نفسك تاني يا فيلسوف؟ ولا بتكتب شعر في الهوا؟”


ابتسم آدم رغم توتره، وقال:

“لو كنت شاعر، كنت كتبت عن الست اللي بتطاردني في منامي.”

– “ست؟”

ضحك كريم وقال مازحًا:

“شكلها معجبة بيك من العالم الآخر.”


لكنه حين رأى جدية وجه آدم، جلس بجانبه وقال بقلق:

“احكيلي بقى.”


تنهد آدم وقال:

“من وأنا صغير كنت بحلم بوشها، ستّ بشعر طويل وعيونها مليانة دموع. كنت فاكرها خيال.

لكن بقالها شهور بترجعلي كل ليلة، بنفس النداء… نفس الصوت.

الغريب إنّي بحس إن قلبي بيعرفها.”


أطرق كريم رأسه وقال بهدوء:

“يمكن أمك.”

– “أمي؟! أنا ماعنديش أم.”

– “كلنا اتقال لينا كده هنا… بس يمكن تكون عايشة، أو في حد عايزك تعرفها.”


ظلّ الصمت يملأ الغرفة، حتى انطفأت الأنوار مع أول خيط للفجر.



---


كان صباح الدار يبدأ دوماً برائحة الخبز والضجيج.

الأطفال يركضون في الممرات، والمُشرفة تصرخ: “كلكم على الفطور!”

آدم، الذي بلغ الثامنة عشرة منذ أسابيع قليلة، صار مسؤولاً عن الصغار، يساعد في ترتيب الطاولات وإصلاح الأجهزة القديمة.


لكنه اليوم كان شاردًا.

بين يديه كوب شاي بارد، وفي ذهنه تلك العبارة التي قالها كريم: “يمكن أمك.”


خرج بعد الإفطار إلى الحديقة الصغيرة خلف الدار، جلس تحت شجرة قديمة.

من بعيد، كان صوت الأطفال يختلط بصفير الريح.

فتح حقيبته الصغيرة، وأخرج منها قطعة قماش ممزقة كان يحتفظ بها منذ طفولته —

قطعة من بطانية زرقاء كتب عليها حرف “ل”.

قال له أحد الموظفين قديمًا إنها كانت ملفوفة حوله حين جاؤوا به إلى الدار.


لم يكن يعرف ماذا تعني “ل”.

لكنه كان يشعر أن الحرف هذا هو ما تبقى من هويته.

ربما “ل” تعني “ليلى”؟ ربما كانت تلك أول إشارة لأمه التي لا يعرفها.


رفع رأسه للسماء وقال بهدوء:

“لو إنتي حقيقية… ليه سبتيني؟ وليه راجعالي في الأحلام بعد السنين دي كلها؟”



---


في المساء، زار الدار رجل خمسيني ببدلة رسمية أنيقة.

المديرة استقبلته بحفاوة غريبة.

قالت له وهي تبتسم بخضوع:

“أهلاً وسهلاً يا أستاذ عادل… يشرفنا وجودك تاني.”

– “جيت أشوف الولاد اللي ممكن نختار منهم شاب يشتغل في الشركة عندي.”


حين دخل قاعة الطعام، كان آدم ينظف الطاولات.

التقت عيناه بعينَي الرجل للحظة، فشعر بشيء غريب — برودة في صدره، وارتباك في أنفاسه.

أما “عادل المهيب” فقد تجمّد مكانه وهو ينظر إلى الشاب، كأنه يرى شبحًا من ماضيه.


اقترب بخطواتٍ بطيئة، قال بصرامة مصطنعة:

“اسمك إيه يا ولد؟”

– “آدم يا فندم.”

– “آدم… بس؟”

– “ماعرفش اسم تاني، ده اللي اتسجّل في الدار.”


ظلّ الرجل يحدّق فيه طويلاً، قبل أن يتمتم بصوتٍ خافتٍ بالكاد سمعه أحد:

“نفس العينين… مستحيل.”


سألته المديرة:

“تحب نرشحه للشغل؟”

لكنه كان مازال غارقًا في ذهوله، ثم قال مترددًا:

“آه… خلوه يجي يقابلني في المكتب الأسبوع الجاي.”


وبينما غادر “عادل المهيب” الدار، كانت عيناه مضطربتين كأنهما تخفيان سراً قديماً عاد للحياة فجأة.


أما آدم، فظلّ واقفًا في مكانه، لا يعرف لماذا شعر بثقل في قلبه،

وكأنّ القدر فتح أمامه بابًا غامضًا لا يعلم إلى أين سيقوده.



---


في تلك الليلة، حلم من جديد.

كانت المرأة تبكي في مكانٍ مغمور بالضوء، تحمل بين ذراعيها طفلًا وتقول بصوتٍ مرتجف:

"آدم… إرجعلي، الوقت بيخلص."

اقترب منها بخطواتٍ بطيئة، وحين مدّ يده ليلمِس وجهها، انفتح الضوء فجأة كوميض برق،

ورأى خلفها بابًا من حديد، مكتوبًا عليه نفس الحرف القديم — "ل".


استيقظ مذعورًا، عرقه يغمر وجهه، وقلبه يخفق بقوة.

فتح حقيبته، أخرج قطعة القماش الزرقاء ونظر إلى الحرف.

الدموع ملأت عينيه دون أن يعرف السبب.

همس بصوتٍ مرتعش:

“هي دي… نفس العلامة.”



---


وهنا، كان القدر يكتب سطره التالي:

في اليوم نفسه، كانت “ليلى” تقف أمام باب دار الأيتام القديم، تمسك بملفٍ فيه صورة لابنها يوم ولادته.

لم تكن تعرف أن الخطوتين اللتين تفصلانها عن الحقيقة قد بدأت بالفعل،

وأنّ صوتها في حلمه لم يكن خيالًا… بل نداءً حقيقيًا من أمٍّ ضيّعها الزمن.


🌙 الفصل الثاني: صوت في الحُلم
الجزء الثاني – خيوط في العتمة


كانت "ليلى" تقف أمام باب دار الأيتام القديمة،

كأنها تقف أمام بوابة زمنٍ دفن عمرها بداخله.

اللافتة الخضراء الباهتة ما زالت تحمل الاسم:

"دار النور للأيتام والرعاية الاجتماعية".

كلماتها متآكلة، مثل وجعها الذي لم يبهت رغم السنين.


شدّت معطفها حول جسدها النحيل،

ثم طرقت الباب مرتين.

جاء صوت حارسٍ عجوز من الداخل:

“مين؟”

– “أنا… اسمي ليلى عبدالسلام، كنت… بدوّر على ملف طفل قديم هنا.”


فتح الباب متثاقلًا، نظر إليها بريبة وقال:

“من غير تصريح رسمي ماينفعش يا مدام، عندنا أوامر.”

– “أنا مش طالبة أسرار، أنا بدوّر على ابني!”

انكسر صوتها في آخر الكلمة، فتلين ملامحه قليلًا وقال:

“طيب استني، هندهلك المديرة.”



---


دخلت “ليلى” إلى الممر الطويل المليء برائحة المطهّرات.

الأطفال يركضون، ضحكاتهم تضرب صدرها كطعنة؛

ضحكات تذكّرها بضحكة لم تسمعها من ابنها أبدًا.


بعد دقائق، خرجت “المديرة” — امرأة متأنقة ذات ملامح حادة وعينين تقيّمان كل شيء.

ابتسمت ابتسامة مصطنعة وقالت:

“أهلاً يا مدام ليلى، ممكن أعرف سبب الزيارة؟”


– “أنا بدوّر على ابني اللي اتولد هنا من ١٨ سنة… كان اسمه آدم.”

رفعت المديرة حاجبيها بدهشة خفيفة، ثم جلست وقالت ببرودٍ رسمي:

“يا ريتني أقدر أساعدك، لكن السجلات القديمة اتحرقت في حادث من زمان.

كنا في طور التجديد، والحرائق اللي بتحصل في المباني القديمة دي… بتاكل كل حاجة.”


– “كل حاجة؟ حتى أسماء الأطفال؟!”

– “للأسف.”


سكتت ليلى لحظة ثم أخرجت من حقيبتها الصورة التي كانت تحتفظ بها:

صورة رضيع ملفوف في بطانية زرقاء، على طرفها حرف واضح — "ل".

دفعت الصورة نحو المديرة وقالت برجاءٍ موجع:

“ابصي كويس… يمكن تكوني شوفتي الحرف دا في حاجة عندكم.”


تأمّلت المديرة الصورة، ثم رفعت رأسها ببطء وقالت بتردّد:

“البطانية دي شكلها من شحنة قديمة فعلاً… بس دا كلام قديم جدًا.

استني، يمكن نلاقي أثر بسيط في أرشيف التبني.”


قامت واتجهت إلى غرفة صغيرة جانبية،

وبعد دقائق عادت بورقة صفراء باهتة الأطراف.

دفعتها إلى ليلى وقالت:

“دا آخر ما تبقّى من السجلات. مش واضح قوي، بس في اسم طفل اتسجّل بعد ولادته بيومين فقط باسم (آدم – بدون لقب).

البيانات ناقصة… ما كتبوش اسم الأم ولا الأب، لكن في ملحوظة مكتوبة بخط مختلف:

“تم استلام الطفل ببطانية زرقاء – حرف (ل).””


شهقت ليلى ووضعت يدها على فمها لتكتم صرخة كادت تخرج.

“هو دا… دا ابني!”

أغلقت المديرة الورقة بسرعة وقالت بصوتٍ جاف:

“معلش يا مدام، بس القانون مايسمحش نكشف أي بيانات حالية.

حتى لو لقينا أثر، مش هتقدري توصّلي ليه إلا بإذن قضائي.”


وقفت ليلى، والدموع تغرق عينيها:

“القانون ظلمني زمان… ولسه هيظلمني دلوقتي؟!”

لكن المديرة لم تجب،

اكتفت بالنظر إليها بشيءٍ يشبه الشفقة،

ثم قالت:

“هقولك حاجة من غير ما تسجليها رسمي.

من حوالي أسبوعين، جه عندنا رجل أعمال معروف بيزور الدار دايمًا.

كان بيتفرج على الأولاد اللي هيختار منهم شاب يشتغل معاه،

وأنا لاحظت إنّ عينيه اتعلّقت بولد واحد… اسمه آدم.”


ارتجف جسد ليلى:

“آدم؟! لسه هنا؟!”

– “لأ، المفروض هيروح له الشغل الأسبوع الجاي.”


خرجت ليلى من المكتب وهي تشعر أن الأرض تهتز تحتها.

الهواء صار خفيفًا، كأن العالم يوشك أن ينهار.

تمسّكت بجدار الممر حتى لا تسقط،

ثم تمتمت بصوتٍ مرتعش:

“آدم… ابني… كان قدامي طول الوقت.”


---


في الجهة الأخرى من المدينة،

كان "آدم" يقف أمام بوابة شركة ضخمة تحمل الاسم:

"المهيب جروب للتجارة الدولية".

ارتدى قميصًا بسيطًا وبنطالًا أسود، يحمل في يده ملفًا متواضعًا،

لكن داخله طموح كبير ورغبة في إثبات نفسه.


في الاستقبال، أعطوه بطاقة مؤقتة، وقالت الموظفة بابتسامة مجاملة:

“الأستاذ عادل منتظرك في الدور العاشر.”


حين صعد بالمصعد الزجاجي،

رأى المدينة من الأعلى لأول مرة في حياته.

بدت له بعيدة، متشابكة، مثل حياته التي لا يفهمها بعد.


دخل المكتب الفخم بخطواتٍ مترددة.

كان “عادل المهيب” يجلس خلف مكتبه الكبير،

وجهه جامد لكن عيناه كانتا تتابعان كل حركة من حركات آدم باهتمامٍ غريب.


“صباح الخير يا أستاذ.”

– “صباح النور… تعال، اقعد.”

جلس آدم، وقلبه يخفق دون سبب.

كان هناك شيء مألوف في ملامح الرجل، في طريقة نظره، في صوته حتى.


سأله عادل ببطء:

“قالولي إنك شاطر، بتحب الشغل، وبتفهم بسرعة.”

– “بحاول يا فندم.”

– “عندك أهل؟”

تجمّد آدم للحظة.

“لأ… اتربيت في الدار. ماعرفش حد.”


ظلّ “عادل” ينظر إليه بصمتٍ طويل،

ثم قال بصوتٍ منخفض يكاد لا يُسمع:

“ولا أنا… بقيلي سنين ماعرفتش حد.”


لم يفهم آدم مغزى الجملة،

لكنه شعر بشيء دافئ يمرّ بينهما كخيطٍ خفيّ من القدر.


قبل أن يغادر، قال له “عادل”:

“ابدأ الشغل بكرة الصبح، وهتبقى قريب مني… عايز أتابعك بنفسي.”


خرج آدم من المكتب متوترًا،

لكنه كان يشعر للمرة الأولى في حياته أن أحدًا انتبه لوجوده فعلًا.


---


في تلك الليلة، جلست ليلى أمام نافذة غرفتها الصغيرة في الفندق،

تكتب في دفترها من جديد:


> “آدم،

أنا لقيت ريحة وجودك في المكان اللي كبرت فيه.

حد قاللي إنك خلاص هتبدأ حياة جديدة.

يمكن القدر جمعنا في مدينة واحدة،

ويمكن الصدفة تكون رحم جديد نولد منه إحنا الاتنين.”


ثم أغلقت الدفتر ورفعت رأسها نحو السماء.

قالت بصوتٍ ثابت هذه المرة:

“أنا مش هسيبك تاني يا ابني،

حتى لو كل العالم ضدي.”


في مكانٍ آخر،

كان “عادل المهيب” يقف في شرفته العالية،

ينظر إلى المدينة نفسها،

وفي يده كأسٌ من الماء يرتجف بداخله الضوء.

همس لنفسه:

“لو الزمن بيرجع، كنت عملت كل حاجة غير كده.

بس يمكن… لسه في وقت أصلح الغلط.”


---


🌙 الفصل الثاني: صوت في الحُلم
الجزء الثالث – حين تلتقي الأرواح قبل العيون


كان الصباح مشرقًا على غير العادة.

المدينة ازدحمت مبكرًا،

لكن في قلب "ليلى" كانت السحب ما تزال كثيفة.

لم تنم إلا قليلًا تلك الليلة، بين القلق والحنين،

تحاول أن تُصدّق أن ابنها الذي فقدته منذ ثمانية عشر عامًا ما يزال على قيد الحياة،

يعيش في المدينة نفسها، تحت السماء نفسها،

وربما… يمر من نفس الشارع دون أن يعرفها.


ارتدت معطفها البسيط، ووقفت أمام المرآة الصغيرة.

وجهها شاحب، لكن في عينيها بريق جديد —

بريق امرأة قررت أن تواجه العالم من أجل شيءٍ يستحق.


قبل أن تغادر، وضعت في حقيبتها الصورة القديمة وقطعة القماش الزرقاء.

همست وهي تغلق الباب:

“يا رب، خليني أشوفه… حتى لو مرة.”



---


في الناحية الأخرى من المدينة،

كان "آدم" يستعد لأول يوم عملٍ له في شركة “المهيب جروب”.

وقف أمام المرآة الصغيرة في سكن الشباب التابع للدار،

يحاول تعديل ياقة قميصه،

ثم تنفّس بعمق وقال لنفسه:

“يوم جديد… يمكن يكون البداية.”


لم يكن يعرف أن اليوم نفسه سيكون بداية حقيقته أيضًا.


حين وصل إلى الشركة،

استقبله موظف الاستقبال بابتسامةٍ خفيفة،

وأعطاه بطاقة تعريف كتب عليها: “آدم – مساعد إداري تحت التدريب.”


ركب المصعد الزجاجي مرة أخرى،

وكانت تلك المرة أقل خوفًا، لكن أكثر توترًا.

كان يشعر أن شيئًا غير مرئي يراقبه،

كأن عيون القدر تتربص بكل خطوة يخطوها.


في الدور العاشر، كان "عادل المهيب" يقف أمام نافذته الكبيرة،

ينظر إلى المدينة الممتدة أمامه.

منذ رأى الشاب أمس، لم يعرف طعم النوم.

وجهه لا يفارقه،

كلما أغمض عينيه رأى نفس الملامح التي خبأها الزمن،

العيون التي تشبه عيون امرأةٍ ظلمها…

امرأة ما زال ضميرُه يراها في كوابيسه.


دخل السكرتير وقال:

“الأستاذ آدم وصل يا فندم.”

– “خليه يدخل.”


دخل الشاب بخطواتٍ مترددة،

لكن هذه المرة لم يتلعثم.

ابتسم بأدب وقال:

“صباح الخير يا أستاذ.”

ردّ عليه الرجل بصوتٍ هادئ، يخفي خلفه زلزالًا من الاضطراب:

“صباح النور يا آدم، اتفضل.”


جلسا يتحدثان عن المهام،

لكن عقل عادل لم يكن مع الكلمات.

كان يراقب كل تفصيلة في وجهه: شكل الحاجبين، نبرة الصوت، حتى طريقة الجلوس.

كل شيء فيه كان صدىً لشخصٍ آخر،

لخطيئة قديمة لم يُمحَ أثرها بعد.


في لحظة صمت، قال “عادل”:

“عارف يا آدم… في حاجات بتتولد جوانا وإحنا مش عارفين مصدرها،

زي الخوف، أو الحنين، أو إحساس غريب بشخص أول مرة نشوفه.”


ابتسم آدم بخجل وقال:

“يمكن دا اللي بيخلينا نحس إن في أرواح بتتعرف على بعض قبل العيون.”


تجمّدت ابتسامة عادل،

تلك الجملة سكنت في صدره كطعنة من ندم.

قال بهدوءٍ مكسور:

“يمكن فعلاً الأرواح بتتعرف… ويمكن كمان بتغفر.”



---


في الوقت نفسه، كانت “ليلى” قد وصلت إلى مبنى الشركة.

كانت تحمل بيدها ملفًّا صغيرًا كتبت عليه بخطها: “طلب مقابلة مدير العلاقات العامة – بخصوص تبرع”.

كانت تلك حيلتها الوحيدة للدخول دون أن يوقفها الأمن.


حين دخلت، شعرت بالرهبة من المكان؛

الزجاج اللامع، والموظفون في ملابس أنيقة، والوجوه المندفعة بسرعة.

لكنها تماسكت، تقدّمت نحو الاستقبال وقالت بابتسامةٍ مرتجفة:

“عندي مقابلة مع الأستاذ عادل المهيب.”


ردّت الموظفة بابتسامة رسمية:

“هل حضرتك من إحدى الجمعيات الخيرية؟”

– “تقريبًا… أنا كنت بدوّر على تبرع خاص لدار الأيتام اللي كنت فيها متطوعة زمان.”


أومأت الموظفة وأعطتها استمارة لملئها،

ثم طلبت منها الانتظار في القاعة الزجاجية المطلة على الممر المؤدي إلى المصعد.


جلست ليلى،

وعيناها تتجولان في وجوه الداخلين والخارجين،

كأنها تبحث فيهم عن ملامح ضائعة.


وبينما كانت تنظر نحو المصعد،

انفتح الباب وخرج منه شاب طويل القامة،

وجهه يحمل مزيجًا من البراءة والقوة،

وفي عينيه بريق حزن مألوف جدًا.


توقّف الزمن لحظة.

تسارعت أنفاسها.

قلبها خفق بقوة كأن أحدهم أيقظه من موته.


همست دون وعي:

“آدم؟!”


لكن الصوت لم يخرج إلا همسًا، لم يسمعه أحد.


مرّ بجوارها دون أن يلتفت،

يحمل أوراقًا ويبدو منشغلًا في حديثٍ مع زميله.

لكن حين اقترب منها،

شعر هو الآخر بشيء غريب.

رائحة مألوفة، دافئة،

كأنها تذكّره بشيءٍ قديم جدًا…

برائحة البطانية الزرقاء التي كان يحتفظ بقطعةٍ منها في حقيبته.


توقف لحظة، التفت نحوها بعفوية.

التقت عيناهما.


لحظة واحدة فقط، لكنها كانت كافية.

عينان بلون البحر القديم،

وامرأة بنظرةٍ مليئة بالدهشة والدموع المكبوتة.

كأن كل ما في الكون توقّف احترامًا لذلك اللقاء الصامت.


سألها بخفوتٍ متردد:

“حضرتك بخير؟ محتاجة مساعدة؟”

ارتجفت شفتاها، لكنها تمالكت نفسها وقالت:

“لا… أنا تمام، شكرًا.”


ابتسم بلطفٍ ومضى في طريقه،

لكن قلبه ظلّ مضطربًا.

لم يعرف لماذا شعر أنه يعرف تلك السيدة،

وكأنها كانت تسكن أحلامه منذ زمن.


جلست “ليلى” على الكرسي، ودموعها تتساقط دون صوت.

تريد أن تصرخ: “أنا أمك يا آدم!”

لكن الخوف كبّلها،

الدهشة، والرهبة، واليقين الذي ضربها دفعةً واحدة.


قالت في نفسها:

“مش هينفع أقول كده كده… لازم أتأكد، لازم أعرف الحقيقة كلها.”



---


بعد دقائق، خرج “عادل المهيب” من مكتبه متجهًا للمصعد.

حين رآها جالسة هناك،

توقّف في مكانه وكأن الزمن عاد به عشرين عامًا إلى الوراء.

الوجه نفسه، العيون نفسها، وإن كانت أكثر تعبًا وأشد وجعًا.


همس في داخله:

“ليلى؟! مستحيل…”


اقترب منها بخطواتٍ بطيئة.

حين رفعت رأسها نحوه،

تجمّدت ملامحها هي الأخرى.

رجل من ماضيها الملعون،

الوجه الذي كان آخر ما رأته قبل أن تُساق إلى السجن ظلمًا.


التقت العيون، ولم يتكلما.

لكن الصمت بينهما كان كافيًا ليحكي كل شيء.


قال أخيرًا بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه سواها:

“كنت عارف إن اليوم دا هييجي.”


وقفت ببطء، نظرت نحوه بعينين يغلي فيهما الغضب والدموع معًا، وقالت:

“اللي فات ما ماتش يا عادل… لسه في ناس بتدفع تمن ذنبك.”


همس وهو يشيح بنظره عنها:

“وأنا أولهم.”


ثم مضى، تاركًا وراءه قلبين احترقا من نارٍ واحدة،

وقدرًا يُعيد ترتيب خيوطه ليجمع ما فرّقه الظلم.



---


في المساء، كانت “ليلى” تسير على الكورنيش،

الموج يرتطم بالحجارة كأنه يعاتبها على صمتها.

أخرجت من حقيبتها قطعة القماش الزرقاء،

ضمتها إلى صدرها وقالت بصوتٍ متهدج:


> “شُفتك النهارده يا آدم… حتى لو ماعرفتنيش،

كفاية إن قلبي عرفك من أول نظرة.

بس مش هسيبك تاني،

المرة دي… هعرف كل حاجة، وهكسر الصمت اللي دفنّاه سنين.”


في اللحظة نفسها،

كان آدم في غرفته يحدّق في قطعة القماش الصغيرة ذاتها،

يمرر أصابعه على الحرف الأزرق “ل”،

ويقول لنفسه بصوتٍ حالم:

“النهارده قابلت ستّ غريبة… بس ريحتها كانت مألوفة،

زي ريحة المكان اللي ما اتولدتش فيه.”


ثم أغلق عينيه،

وفي نومه، عاد الحلم من جديد.

المرأة تبكي، تمد يدها نحوه،

لكن هذه المرة، لم تهمس فقط باسمه،

بل قالت بوضوحٍ موجع:

“أنا أمك يا آدم.”


استيقظ فزعًا،

لكن الغرفة كانت ساكنة.

مدّ يده ليتأكد من قطعة القماش…

فوجدها دافئة، كأن أحدهم كان يحتضنها منذ لحظات.



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-