حق مكتسب
بقلم اسماء ندا 
💙 الفصل الثالث: الوشاح الأزرق
(الجزء الأول – ملامح الغياب)
كانت السماء رمادية ذلك الصباح،
كأنها تحمل أسرارًا قديمة على وشك أن تُقال.
المدينة بدت باردة على غير العادة،
ورائحة المطر التي سبقت السحب الثقيلة
كانت كأنها تُنذر بحدثٍ ما…
شيء لا يخص الناس جميعًا، بل قلبين فقط،
ضائعين منذ زمن طويل، اقترب ميعاد لقائهما.
في شقتها الصغيرة في حيّ شعبي قديم،
جلست ليلى أمام كوب من الشاي البارد،
وعيناها معلقتان بالفراغ.
كل شيء حولها بسيط، لكن داخلها كان عالمًا من الفوضى.
في ركن الغرفة، على الطاولة الخشبية المتهالكة،
كانت هناك مجموعة أوراق وصور مبعثرة —
صورة للمولود الذي وُلد في السجن،
وصور قديمة للدار التي انتُزع منها،
وورقة تحمل عنوان شركة “المهيب جروب” بخط يدها.
كتبت بخطٍّ ثابت في دفتر صغير:
> “اليوم الأول في البحث الحقيقي.
رأيته بعيني، شعرت به بقلبي،
لكن لا بد أن أعرف كل شيء قبل أن أقترب منه.
لا أريد أن أخيفه… ولا أريد أن أخسره.”
أغلقت الدفتر، وارتدت معطفها الرمادي،
ثم أخرجت من درجها قطعة القماش الزرقاء التي بدأت أطرافها تتآكل من كثرة اللمس،
وضعتها في حقيبتها كما تفعل كل يوم منذ خرجت من السجن،
وكأنها تحمل قلبها نفسه.
نزلت إلى الشارع،
والمطر بدأ يتساقط خفيفًا، يغسل وجوه الناس وحكاياتهم.
أوقفت سيارة أجرة،
وقالت للسائق بهدوءٍ فيه تصميم:
“على شركة المهيب جروب، من فضلك.”
---
في الوقت نفسه، كان آدم يقف في غرفة الأرشيف بالشركة،
ينقل ملفاتٍ من رفٍّ إلى آخر،
لكن عقله لم يكن هناك.
كل تفصيلة في لقاء الأمس مع تلك السيدة الغريبة
كانت ما تزال تتردّد داخله مثل صدى بعيد.
لم يستطع نسيان نظرتها —
كانت نظرة تعرفه قبل أن تراه.
ونبرتها المرتجفة حين قالت “أنا تمام”
بدت وكأنها تخفي خلفها كلمات كثيرة لم تُقل.
قال لنفسه وهو يفتح أحد الملفات:
“يمكن مجرد صدفة… بس ليه حاسس إن في حاجة مش طبيعية؟”
توقف لحظة، أخرج من جيبه قطعة القماش الصغيرة الزرقاء،
نفس اللون، نفس الملمس، نفس الدفء.
تأملها طويلًا،
ثم أغمض عينيه واستسلم للحظة من الذكرى التي لا يعرف مصدرها.
---
في مكتب عادل المهيب،
كانت الأجواء مشحونة بطريقة لا يفهمها أحد غيره.
كان يجلس خلف مكتبه الفخم،
يحاول التظاهر بالانشغال بالملفات،
لكن في داخله عاصفة لا تهدأ.
منذ رأى ليلى أمس، شعر أن العالم كله ضاق عليه.
الوجه الذي حاول نسيانه عاد حيًّا أمامه —
وجهها يوم نُطِق بالحكم، وصرختها التي طاردته لسنوات.
“حرام عليك يا عادل… أنا اللي بدفع تمن ذنب مش ذنبي!”
كانت كلماتها تلسع ضميره كل ليلة،
والآن، بعد كل هذه السنين، جاءت لتقف أمامه، حية، قوية،
تحمل في عينيها وجعًا لم يُمحَ.
نهض عن كرسيه وأمسك هاتفه،
اتصل بسكرتيره الخاص.
– “عايز أعرف كل حاجة عن السيدة اللي جات امبارح… اسمها ليلى إبراهيم. منين؟ شغالة فين؟ عايز كل حاجة بالتفصيل.”
ردّ الموظف بتردد:
– “تمام يا فندم، بس حضرتك تقصد ليه؟ كانت جاية بخصوص تبرع خيري.”
قال عادل بحدّةٍ خافتة:
– “نفّذ اللي قلتلك عليه بس.”
أغلق الخط، ثم جلس ودفن وجهه بين يديه.
“هي رجعت ليه دلوقتي؟ وليه في الوقت اللي الولد ظهر فيه؟”
تردد السؤال في رأسه كجرس إنذار.
هل يمكن أن تعرف أن الطفل ما زال حيًّا؟
هل يمكن أن تكون جايه تدور عليه؟
لكن لو عرفت الحقيقة…
لو عرفت أن ابنها هو نفسه الشاب اللي بيشتغل عنده!
تنهّد عادل بشدة،
لم يكن يعرف ما إذا كان القدر يسخر منه، أم يمنحه فرصة أخيرة للتكفير.
---
في بهو الشركة،
كانت ليلى قد وصلت وجلست على أحد المقاعد الجانبية،
تراقب بخفة من بعيد.
تتابع حركة الموظفين، تسجّل الوجوه،
وتحاول أن تعرف شيئًا عن الشاب الذي رأته بالأمس.
اقترب منها أحد الموظفين الشباب وقال بلطف:
“حضرتك محتاجة مساعدة؟”
ابتسمت ابتسامة مترددة:
“أنا كنت جاية أقابل أستاذ عادل بخصوص التبرع اللي قدمناه. ممكن أعرف إن كان هنا؟”
– “هو في اجتماع حاليًا، لكن ممكن تسيبي رقمك.”
كتبت رقم هاتفها على ورقة،
لكنها أضافت بخط صغير في الأسفل اسمًا آخر: دار النور للأيتام – متطوعة سابقة.
ثم شكرت الموظف وغادرت،
لكنها لم تذهب بعيدًا؛ وقفت في الخارج قرب الباب الزجاجي تراقب من بعيد.
كانت ترى “آدم” من خلال الزجاج وهو يتنقل بين المكاتب.
لمحت ضحكته الخفيفة وهو يتحدث مع زميله،
تلك الضحكة التي تشبه تمامًا ضحكة رجلٍ واحد فقط —
والده الذي لم يعترف به يومًا.
ارتجف قلبها، ليس لأن الشبه كان واضحًا،
بل لأن القدر يعيد نفس الوجوه أمامها لتتذكر كل شيء.
قالت في سرّها:
> “حتى ابتسامته زيّه…
بس أنا مش هسمح يكون مصيره زيه.”
---
في المساء، جلست ليلى في المقهى الصغير المطل على البحر،
تخرج أوراقها واحدة تلو الأخرى.
كانت تخطط لكل خطوة،
تكتب الملاحظات بعناية كما لو كانت ترسم خريطة طريقٍ للنجاة.
كتبت بخطٍّ واضح:
> “الخطوة القادمة: التأكد من ملف التبني،
دار النور للأيتام،
البحث في السجلات القديمة – سنة 2007.”
وضعت القلم، وأسندت رأسها على يدها،
بينما كان الموج يضرب الصخور أمامها بإصرار.
كل موجة كانت تهمس باسم ابنها،
تقول لها: “اقتربي أكثر، الحقيقة وراكِ.”
وفي مكانٍ آخر من المدينة،
كان “عادل المهيب” يقف أمام نافذته في الظلام،
ينظر إلى الأضواء البعيدة ويقول لنفسه:
“الوشاح الأزرق… كان هو العلامة الوحيدة.
لو هي لسه محتفظة بيه، يبقى كل اللي حاولت أنساه راجع تاني.”
مدّ يده إلى درج مكتبه وأخرج صورة قديمة،
صورة لامرأة تحمل طفلًا صغيرًا بوشاحٍ أزرق حوله.
مرّر أصابعه على الصورة،
ثم تمتم بصوتٍ مرتجف:
“سامحيني يا ليلى… سامحيني قبل ما تعرفي كل حاجة.”
---
وفي تلك الليلة،
حلم آدم مرة أخرى بنفس المشهد —
المرأة التي تبكي وتحمل وشاحًا أزرق،
لكن هذه المرة كانت تقف على شاطئ البحر،
تمد له يدها،
وفي الخلفية، كان هناك رجل غامض يراقب من بعيد،
وجهه غير واضح…
لكن عينيه تشبهان عيني “عادل المهيب”.
استيقظ مذعورًا،
وعرقه يتصبب من جبينه،
كأن الحلم أصبح أكثر واقعية من اليقظة.
أمسك قطعة القماش،
وشعر بداخلها دفئًا غريبًا،
كأنها تنبض بالحياة.
تمتم وهو ينظر إلى السقف:
“أنا مش فاهم…
بس لازم أعرف مين الست دي… وليه بتظهرلي كل مرة!”
---
💙 الفصل الثالث: الوشاح الأزرق(الجزء الثاني – الطريق إلى دار النور)
كانت السماء ملبّدة بالغيوم حين وصلت "ليلى" إلى ضاحية بعيدة في أطراف المدينة.
الهواء هناك له رائحة مختلفة، مزيج من التراب والرطوبة والذكريات.
وقفت أمام بوابة حديدية صدئة كُتب عليها بخطٍ باهت:
"دار النور للأيتام – تأسست عام 1994".
ترددت لحظة قبل أن تدق الجرس.
مرّت أمامها صور قديمة؛
ذلك اليوم الذي أُخذ فيه طفلها منها بالقوة،
صراخها وهي تتوسل ألا يُنتزع من بين ذراعيها،
صوت السجّانة البارد وهي تقول: "الأوامر جت من فوق."
ارتجفت يدها وهي تلمس الجرس، ثم ضغطت عليه.
خرجت امرأة مسنّة من الداخل، ترتدي مئزرًا رماديًّا ونظارة سميكة.
تطلعت إليها باستغراب وسألتها:
"مين حضرتك؟"
أجابت ليلى بابتسامةٍ متماسكة:
"أنا كنت متطوعة هنا من سنين طويلة… يمكن مش هتفتكريني، بس كنت بساعد في قسم الرضّع."
حدّقت فيها العجوز طويلًا، ثم قالت ببطء:
"الاسم؟"
– "ليلى إبراهيم."
تغيّرت ملامح العجوز،
كأنها تذكّرت الاسم بعد عناء، ثم همست وهي تفتح الباب قليلًا:
"ادخلي يا بنتي… الدنيا برد."
دخلت ليلى بخطواتٍ مترددة.
رائحة المكان لم تتغيّر — مزيج من المطهّرات القديمة، والحليب، والحنين.
في الممر الطويل، كانت الجدران مكسوة بصور أطفالٍ قدامى،
تحت كل صورة اسم وتاريخ ميلاد،
لكن أغلب الصور كانت باهتة، كأن الزمن أكل ملامحهم.
جلست العجوز على كرسي خشبي وأشارت لها بالجلوس أمامها.
"أنا مدام فريدة… كنت المشرفة العامة هنا. قلّيلي يا ليلى، بعد كل السنين دي، إيه اللي رجّعك؟"
أجابت بصوتٍ مرتجف:
"أنا… بدوّر على طفل كان هنا من حوالي تمنتاشر سنة. اسمه في السجلات يمكن ما يكونش معروف، بس أنا اللي ولدته."
رفعت فريدة حاجبيها بدهشة،
"ولدتيه؟!"
أومأت ليلى ببطء:
"كنت في ظروف صعبة جدًا… والسجن كان مكاني وقتها. خدوه مني بعد سنتين، قالوا الأب رافض يعترف بيه. بس أنا متأكدة إنه عاش هنا."
ساد صمتٌ ثقيل.
نظرت فريدة في عينيها،
وفي نظرتها مزيج من الخوف والشفقة.
قالت بعد لحظة:
"أنا فاكرة الحالة دي… لكن الملفات القديمة اتنقلت للمخزن بعد ما استلمنا الإدارة الجديدة. كتير منها اتلف في الحريق اللي حصل من سنتين."
انقبض قلب ليلى.
"يعني مفيش أي سجل؟ ولا حتى اسم؟"
هزّت فريدة رأسها بأسف:
"مش متأكدة. بس ممكن نحاول ندور. في دفتر قديم كنت بكتب فيه أسماء الأطفال اللي اتولدوا في ظروف خاصة."
قامت العجوز ببطء وتوجهت إلى غرفة جانبية مليئة بالصناديق المغبرة.
تبعَتها ليلى، وبدأتا معًا في البحث وسط الأوراق.
كل ورقة كانت تحمل قصة إنسان منسيّ،
طفل جاء إلى الدنيا بلا اسم، وغادرها بلا أثر.
وبينما كانت تقلب الأوراق بلهفةٍ ودموعٍ صامتة،
سقطت ورقة صغيرة صفراء من بين الملفات.
مدّت يدها إليها، فقرأت:
> "ذكر – غير معلوم الأب – وُلد في السجن المركزي، 7 مارس 2007
نقل إلى دار النور بعد عامين – وُضع تحت اسم مؤقت: آدم."
تجمّدت ليلى في مكانها.
الكلمة الأخيرة — آدم — كانت كأنها طلقة في صدرها.
الدموع انهمرت من عينيها بلا إرادة،
وصوتها خرج متقطعًا:
"آدم… يا رب، هو دا! دا هو!"
رفعت فريدة رأسها بقلق:
"انتي متأكدة؟ الاسم دا اتغير بعدين لما جت جهة تبنّي، بس الملف ما اكتملش."
قالت ليلى بسرعةٍ ولهفة:
"فين الملف دا؟ مين اللي تبنّاه؟!"
– "استني يا بنتي… مش كله مكتوب هنا. يمكن باقي التفاصيل في الإدارة الجديدة، بس ما أضمنش يسمحوا لي أشوفها."
أمسكت ليلى بيدها برجاءٍ دامع:
"أرجوكي، أنا محتاجة أعرف أي حاجة عنه. حتى لو عنوان، رقم، أي طرف خيط!"
تنهّدت فريدة وقالت بصوتٍ خافت:
"هشوف اللي أقدر عليه، بس ما تتعلقيش بالأمل أوي.
اللي زيّنا بيتعلم إن بعض الأطفال بيتاخدوا تحت مسميات مختلفة… مش دايمًا تبنّي."
نظرت إليها ليلى بارتباك:
"تقصدِ إيه؟"
خفضت فريدة صوتها أكثر:
"أحيانًا بيتدخل ناس من فوق… بياخدوا الطفل بحجة التبنّي، لكن بيكون وراه مصالح أو صفقات.
والمهيب جروب كان من الجهات اللي بتتبرع كتير للدار في الوقت دا."
اتسعت عينا ليلى،
كأنها سمعت اسمًا من عالمٍ آخر.
"المهيب جروب؟! انتي متأكدة؟"
– "آه، فاكرة كويس، لأن الأستاذ عادل المهيب بنفسه جه وقتها وسلم شيك كبير.
والملف دا… كان ضمن الحالات اللي اتشالت بعدها بأيام."
وضعت ليلى يدها على فمها، تشهق بصمت.
كل شيء بدأ يتضح أمامها.
عادل… الشركة… التبرعات… الطفل الذي اختفى…
كل الخيوط تتجمع في دائرة واحدة.
---
في مكتب "عادل المهيب"،
كان يجلس في هدوءٍ زائف،
بينما عينيه مثبتتان على شاشة الكمبيوتر أمامه.
على الشاشة صورة حديثة لليلى التُقطت أمام دار النور صباح اليوم،
أرسلها له أحد رجاله.
ضغط بأسنانه وقال في غضبٍ مكتوم:
"زي ما توقعت… راحت هناك."
رنّ هاتفه الأرضي،
كان المتصل مدير الأمن بالشركة.
"أوامرك يا فندم بالنسبة للسيدة دي؟ نتابعها؟"
ردّ عادل ببرودٍ متعمد يخفي اضطرابه:
"تابعوها من بعيد… ما نؤذيهاش، بس عايز أعرف كل خطوة بتعملها.
ولو حاولت تقابل آدم، بلغوني فورًا."
أغلق الخط، ثم وقف أمام نافذته الزجاجية العالية.
المدينة أمامه بدت صغيرة،
لكنه هو الذي شعر بالصِغر.
قال بصوتٍ مبحوحٍ لنفسه:
"هي بتقرب، وأنا مش قادر أوقفها…
بس لو عرفت إن آدم هو ابنها، كل حاجة هتنهار."
جلس على الأريكة وأخرج صورة قديمة أخرى من جيبه —
ليلى وهي حاضنة الطفل في حضنها،
يومها كانت عيناها مليئتين بالنور، رغم الظلم.
قال في همسٍ موجع:
"كنت فاكر إني بحمي الولد… بس يمكن كنت بسرقه."
---
في تلك الأثناء،
كان "آدم" في مقر الشركة، منشغلًا بعمله،
لكن قلبه ما زال يضطرب كلما لمح عادل المهيب.
شيء ما في نظرات الرجل يربكه؛
نظرات فيها شفقة غريبة، كأنها ندم.
مرّ المدير قربه وقال بهدوء:
"آدم، تعال معايا دقيقة."
دخلا المكتب.
أغلق عادل الباب بنفسه،
ثم جلس يشير إلى الكرسي المقابل:
"اقعد يا ابني."
جلس آدم وهو يشعر بعدم ارتياح.
قال عادل بصوتٍ مترددٍ خافت:
"أنا سألت عنك شوية… قالولي إنك كنت في دار أيتام لحد قريب."
– "أيوه، دار النور يا فندم."
– "دار النور… اسمها جميل."
سكت لحظة، ثم سأل وهو يحاول إخفاء ارتباكه:
"عمرك حاولت تعرف والديك الحقيقيين؟"
نظر آدم نحوه بدهشة:
"أكيد حاولت، بس الملفات كلها كانت ناقصة.
قالولي إن والدتي ماتت وقت الولادة، وإن الأب غير معروف."
ارتبك عادل للحظة،
لكنّه تظاهر بالهدوء وقال:
"أنا آسف لو السؤال وجعك… بس أحيانًا، الماضي بيكون مفتاح المستقبل."
ابتسم آدم ابتسامة شاحبة:
"هو فعلاً كده… بس للأسف الماضي عندي مقفول، ومفيش مفتاح."
غادر المكتب بعد قليل،
لكن صوته الداخلي لم يتوقف عن الهمس:
ليه سألني كده؟ وليه حاسس إنه يعرف حاجة عني؟
وفي المساء، حين عاد إلى غرفته،
جلس يتأمل قطعة القماش الزرقاء.
فتحها للمرة الأولى بجرأةٍ كاملة،
فرأى على أحد أطرافها خيطًا باهتًا يشبه الحرف الأول من اسم… ليلى.
تجمّد في مكانه.
قلبه بدأ يخفق بعنفٍ لا تفسير له.
قال في نفسه:
"مين ليلى؟!
الاسم دا كان على الورقة اللي لقيتها مع الوشاح وأنا صغير…"
بدأ يفتّش في صندوقه الصغير الذي يحتفظ فيه بذكرياته القليلة.
وجد ورقة قديمة كان قد نسيها لسنوات، مكتوب عليها بخطٍ باهت:
> “من ليلى إلى صغيري… إن غابت عيوني، فقلبي معك.”
جلس مذهولًا،
الكلمات تتراقص أمام عينيه كأنها تُستعاد من زمنٍ بعيد.
الدموع ملأت عينيه دون أن يدري،
ولأول مرة شعر أن هناك خيطًا حقيقيًا يربطه بامرأة لم يعرفها يومًا.
قال بصوتٍ مرتجفٍ لنفسه:
"ليلى… يمكن تكون هي اللي بشوفها في الحلم!"
---
أما ليلى، فكانت ما تزال في دار النور،
تُقلّب الصفحات القديمة حتى وجدت في نهاية الملف رقم هاتف قديم وملاحظة بخطٍ غير واضح:
> “الملف نُقل إلى المهيب جروب – قسم الرعاية الإنسانية – بتوجيه من الإدارة.”
تسارعت أنفاسها،
أخذت الورقة ووضعتها في حقيبتها بخفة.
ثم شكرت فريدة وغادرت المكان وهي تلهث كأنها تحمل سرًا أثقل من قلبها.
في الطريق، جلست داخل الحافلة المزدحمة،
عيناها تحدقان في المطر المنهمر على الزجاج،
تردد في سرّها:
"آدم… ابني اسمه آدم فعلاً،
وهو هناك، جوا الشركة اللي ضيعت حياتي بسببها."
أغمضت عينيها للحظة،
وشعرت أن الكون كله يدور من حولها ببطء.
صوت المطر، رائحة الشارع، همسات الناس —
كل شيء بدا باهتًا إلا اسمه.
قالت في نفسها، بصوتٍ مبحوحٍ ملئه العزم:
> "مش ههرب تاني.
مش بعد اللي شفته النهارده.
هواجه عادل، وهعرف منه كل الحقيقة،
حتى لو دفعت تمنها من جديد."
---
وفي مقر الشركة،
كان عادل يجلس في الظلام،
حين تلقى اتصالًا قصيرًا من رجله:
"السيدة ليلى خرجت من دار النور، ومعاها ورقة… شكلها مهمة."
سكت عادل للحظة،
ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ واهن:
"خليكم وراها… بس متقربوش.
أنا اللي هقابلها بنفسي."
ثم أغلق الهاتف،
ووقف أمام صورته في المرآة.
وجهه الذي كان يومًا رمزًا للسلطة والنفوذ
صار الآن ظلًّا باهتًا لرجلٍ يخاف من ماضيه.
قال لنفسه بمرارة:
"الوشاح الأزرق… رجع يطاردني من تاني.
بس يمكن المرة دي يكون خلاصه مش في الهروب…
يمكن في الاعتراف."
✦ الفصل الثالث – الجزء الثالث
"رياح الماضي"
كانت الأمطار قد توقفت، لكن رائحة البلل ما زالت تملأ الجوّ كأنها أثر روحٍ لم ترحل.
عادت ليلى إلى شقتها الصغيرة في حيّ شعبي بعيد عن وسط المدينة.
المكان متواضع، جدرانه مشققة كأنها مرآة مكسورة تعكس ما في قلبها من تعبٍ وسنين.
وضعت معطفها المبلول على الحبل المعلق بجانب النافذة، وجلست أمام المرآة القديمة التي احتفظت بها منذ شبابها.
وجهها بدا شاحبًا، متعبًا، كأن السنوات التي ضاعت في السجن ما زالت تسكن ملامحها.
مدّت يدها تلمس خطوط وجهها بإصبع مرتجف وقالت بصوتٍ مبحوح:
“مش قادرة أنسى… لا المكان، ولا الناس، ولا وشه وهو بيبكي.”
كانت تتحدث إلى انعكاسها، كأنها تخاطب نفسها القديمة التي دفنتها خلف القضبان.
ثم سقطت دمعة، واحدة فقط، لكنها كانت كافية لتفتح الباب على سيلٍ من الذكريات.
---
في الليلة التي أنجبت فيها طفلها، كانت السماء تمطر بشدة، والممرات داخل السجن تضجّ بالصراخ.
تذكرت صدى خطوات الحارسات، وصرخة الممرضة وهي تقول: “شدّي نفسك يا ليلى!”
ثم ذلك الصوت الصغير الذي اخترق جدران السجن — أول بكاء لابنها.
تذكرت كيف احتضنته للحظة قبل أن تنتزعه الأيدي منها، وتقول لها الضابطة ببرودٍ:
“الطفل هيقعد هنا بس مؤقت… لو الأب اعترف.”
لكن الأب لم يعترف،
والطفل اختفى بعدها بأيام دون أثر.
قيل لها إنهم أرسلوه إلى دار أيتام مجهولة،
وأن ملفه سريّ لا يحقّ لأحد الاطلاع عليه.
ذلك الجرح لم يلتئم، حتى بعد ثمانية عشر عامًا من الظلم.
---
اليوم، كانت على وشك أن تقترب من الحقيقة.
في الصباح التالي، قررت أن تبدأ أولى خطواتها.
ارتدت ملابس بسيطة، جمعت أوراقها في حقيبة جلدية قديمة، وخرجت إلى الشارع.
كان المطر الخفيف يلامس وجهها كأن السماء تواسيها.
استقلت حافلة متجهة إلى أحد المكاتب الحكومية، حيث توجد إدارة “الأرشيف المركزي”.
هناك تُخزَّن ملفات القضايا القديمة، ومن ضمنها قضيتها التي لم تبرح ذهنها يومًا.
دخلت المكتب المزدحم، والموظفون يتحركون في رتابةٍ باردة.
تقدمت إلى الشباك وسلّمت بطاقتها لرجلٍ أربعيني بوجهٍ متجهم.
قالت له بهدوء:
“عايزة أطلع على ملف القضية رقم ٤٣٢ لسنة ٢٠٠٦… قضية القتل الخطأ في منطقة الهرم.”
رفع الموظف عينيه بفتورٍ وقال:
“انتي صاحبة القضية؟”
– “أيوه، أنا ليلى حسن عبدالغفار.”
– “القضية دي اتقفلت من سنين.”
– “عارفة، بس عايزة أشوف بس شهادة الطفل اللي اتولد وأنا محبوسة.”
نظر إليها بتردد، ثم قال:
“ده محتاج تصريح رسمي، وإلا مش هقدر أفتح الملف.”
– “تصريح من مين؟”
– “من النيابة، أو من الجهة اللي كانت مسؤولة عن السجن وقتها.”
شعرت باليأس يتسلل إليها، لكنها لم تيأس تمامًا.
كانت تعرف أن طريقها مليء بالعقبات، وأن النفوذ الذي حاربها ما زال يحيط بالملف كجدارٍ من نار.
---
في الجهة الأخرى من المدينة، كان “عادل المهيب” يجلس في مكتبه الزجاجي الفخم في برجٍ شاهق.
أمامه ملفات وصفقات، لكن عينيه لم تستطيعا التركيز على شيء.
صورة “آدم” وهو ينظر إليه في دار الأيتام ما زالت عالقة في ذهنه كخنجرٍ يطعن ذاكرته.
أغلق الملف بعنف وقال بصوتٍ متوتر:
“لا يمكن… مش ممكن يكون هو.”
دخلت السكرتيرة بخطواتٍ سريعة قائلة:
“أستاذ عادل، في سيدة اسمها ليلى حسن عايزة تقابلك.”
تجمّد مكانه.
الاسم سقط على مسامعه كصاعقة.
تلعثم:
“ليلى؟ متأكدة؟”
– “أيوه يا فندم، بتقول عندها موضوع مهم بخصوص تبرع قديم للمؤسسة.”
– “خليها تدخل.”
---
دخلت ليلى بخطواتٍ واثقة رغم الخوف.
ارتدت معطفًا رماديًا أنيقًا رغم بساطته.
حين رآها عادل، تراجع في مقعده، كأن أشباح الماضي عادت لتجلس أمامه.
قال ببرودٍ مصطنع:
“أهلاً… ليلى حسن. من زمان ما سمعتش الاسم ده.”
– “زمان طويل فعلاً… تمنتك السنين فيه تكون نسيت.”
– “أنسى؟ بعد اللي حصل؟”
– “اللي حصل هو إنك سبتني أواجه السجن وأنا بريئة.”
ارتجف صوته وهو يقول:
“ماكنتش أقدر… كنت مربوط، مش بإيدي.”
– “لأ، كنت بإيدك… وبقلبك اللي اختار المصلحة بدل العدالة.”
تبادل الاثنان نظراتٍ طويلة، صامتة، مليئة بكل ما لم يُقَل.
ثم وضعت ليلى على الطاولة ورقة مطوية، وقالت بهدوءٍ قاتل:
“جيت عشان أقولك إنّي خرجت. وأخدت التعويض اللي كان المفروض تدفعه زمان.
لكن الفلوس ما رجعتش ابني.”
تغيّر وجه عادل، صوته اختنق:
“ابنك؟ لسه بتدوري عليه؟ بعد كل السنين دي؟”
– “هو كل اللي فاضل لي في الدنيا. وهلاقيه، حتى لو كان في آخر الأرض.”
صمتَ قليلًا ثم قال باضطراب:
“ولو قلتلك إن الولد… يمكن ما بقاش زي ما تتوقعي؟”
نظرت إليه بريبة:
“يعني إيه؟”
– “يعني أحيانًا القدر بيرجع لنا الحقيقة بشكلٍ مؤلم.”
ابتسمت بمرارة وقالت:
“مافيش ألم أكتر من اللي عشته. فخليك مطمن، مستعدة لأي حاجة.”
---
بعد أن غادرت، جلس عادل وحده في المكتب، يحدّق في الفراغ.
فتح درج مكتبه، أخرج صورة قديمة لرجلٍ يحمل طفلًا صغيرًا.
كانت الصورة باهتة، لكنها واضحة بما يكفي لتعيده إلى زمنٍ كان فيه كل شيءٍ أبسط — قبل الخيانة، قبل السجن، قبل أن يتحول الحب إلى لعنة.
مدّ أصابعه المرتجفة تلمس وجه الطفل في الصورة، وقال بصوتٍ متهدّج:
“يا رب، سامحني… أنا اللي بدأت كل ده.”
---
في المساء، جلست ليلى في شرفتها، تفكر في لقائهما.
لم يكن اللقاء الأول منذ خروجها، لكنه أعادها إلى بداية المأساة.
كانت تشعر أن في كلامه شيئًا ناقصًا، كأنه يخفي سراً لم يجرؤ على كشفه.
أمسكت الورقة التي تركتها على مكتبه — نسخة من قرار الإفراج وتعويض الدولة —
لكنها كتبت في أسفلها بخط يدها الصغير:
"اللي سرق عمر غيره، لازم يرجعه يوم."
ثم طوتها وابتسمت ابتسامة خافتة، فيها مزيج من الألم والعزم.
---
في دار الأيتام، كان آدم جالسًا قرب النافذة يتأمل القمر.
الليل ساكن، لكنه لم يشعر بالسكينة.
شيء ما داخله كان يتحرك، كأن قلبه يخبره أن الأيام القادمة ستقلب حياته رأسًا على عقب.
نظر إلى قطعة القماش الزرقاء في يده، إلى الحرف “ل” المطرّز بخيطٍ باهت،
وقال بهمسٍ خافت:
“يمكن اللي بدور عليها… هي كمان بتدور عليّ.”
---
وهكذا، كانت الخيوط تتقاطع دون أن يدرك أحد.
المرأة التي خرجت من السجن تحمل اسمًا واحدًا وحلمًا واحدًا،
والشاب الذي وُلد بين الجدران يبحث عن ملامح وجهٍ يراه في المنام،
ورجلٌ يعيش بين المال والندم يخفي سرًّا سيغيّر مصائر الجميع.
الريح تهبّ في الخارج، تداعب ستائر الغرف الثلاثة في وقتٍ واحد،
وكأنها تحمل نَفَس القدر الذي بدأ يقترب… ببطءٍ قاتل.
