الكوبرا
رواية الكوبرا بقلم لبنى دراز
الفصل الاخير
🌾🌹🌾🌹🌾
قد يولد الإنسان وهو يحمل في دمه لعنة لم يخترها، لكن رحمة الله أوسع من أن تحكمه نهايات مظلمة. فالموت الحقيقي أن نستسلم للشر، أما الحياة الحقيقية فهي أن يمنحك الله فرصة لتولد من جديد، بقلب أنقى وروح أصفى، لتدرك أن الرحمة قادرة أن تخلق حياة حتى من رحم الموت
الكوبرا بقلمي✍️_________ لبنى دراز
في شركة سليمان النوري
مرّت الأيّام تتهاوى كالأحجار في بئرٍ عميق، شهراً تلو الآخر، حتى انقضت ثلاث سنوات كاملة، خلال تلك الفترة أنهت بسيل دراستها الجامعية، وتخرّجت بتفوق لافت، لم ينافسها فيه أحد وبفضل دهائها ومهارتها النادرة في الإدارة، تحوّلت شركة والدها إلى واحدة من أكبر شركات الاستيراد والتصدير في الشرق الأوسط، غير أنّ نجاحها الخارجي لم يُطفئ شيئًا من الجمر المتأجج في أعماقها، فالحقد ظلّ يتغذّى على كل إنجاز تحققه، والغلّ ينهش قلبها كلما تذكّرت والدها. بقيت أسيرة نقمتها، تؤذي وتقتل من يقترب منها، كأنها لا تنتقم إلا من أبيها من خلال دماء الآخرين.
وذات يوم، زارتها صديقتها رحيل في الشركة، بملامح باهتة يغمرها الحزن، جلست أمامها والدموع تحاصر عينيها، ثم تمتمت بصوتٍ مبحوح:
"الحقيني يا بيسا بابا قرر يجوزني."
رفعت بسيل عينيها نحوها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة صفراء تُخفي وراءها نيرانًا متأججة من الغيرة والحنق:
"وفين المشكلة يعني يا رحيل لما تتجوزي؟"
قالتها وكأنها تدفعها دفعًا نحو هاويةٍ لا عودة منها.
رحيل، بصوت متهدّج وقلب لا يزال مشدودًا إلى ذكرى حبيبها الراحل:
"عايزاني أنسى عماد بالسهولة دي يا بيسا؟"
ارتعشت عينا بسيل للحظة، لكن سرعان ما غطّتها بنبرة زائفة تحمل حبًا مزيّفًا وكرهًا دفينًا:
"هتفضلي عايشة على ذكراه طول عمرك؟ يا حبيبتي عماد خلاص مات من 3 سنين، اسمعي كلام أبوكي وشوفي حياتك."
انهمرت دموع رحيل وهي تهمس:
"بس أنا مش قادرة ولا هعرف أعيش مع العريس اللي متقدملي."
هنا انكشف الغلّ في صوت بسيل، رغم محاولتها التظاهر بالنصح:
"يا ستي شوفيه الأول، ولو ماعجبكيش ما توافقيش."
اقتنع قلب رحيل المتردد بكلمات صديقتها، وطلبت منها أن تحضر معها اللقاء لترى بنفسها خطيبها المنتظر، لكنها لم تدرك أنّها بهذا الطلب صبّت الزيت على نارٍ مشتعلة أصلًا في أعماق بسيل، حتى كادت أن تحرقها هي وصديقتها معها.
________________________
في بيت رحيل
حلّ المساء أخيرًا، وحلّت معه لحظة الفصل، دقّت عقارب الساعة على الموعد المحدد، فدخل أرغد برفقة أسرته وصديقه تميم إلى بيت والد رحيل، الجو بدا رسميًا، لكن ستارًا ثقيلًا من التوتر خيّم على القاعة، حتى بدت الأنفاس مثقلة وكأنها تخشى الانفلات.
رحيل جلست ساهمة، صامتة، لا أثر لفرحة العروس على ملامحها؛ عيناها تائهتان وكأنهما تبحثان عن طيف عماد الغائب أكثر مما تري وجه العريس القادم، في المقابل كانت بسيل تجلس في الركن متماسكة في الظاهر، بينما في داخلها عاصفة تتقلب وما إن التقت عيناها بعيني أرغد حتى انقلب كيانها رأسًا على عقب قلبها خفق بجنون، كطبول حرب تُعلن معركة لا تفهم سرها، هل هو حبٌّ مباغت أم لعنة أخرى تضاف إلى سجلها الأسود؟ ارتبكت، سرت رعشة في أطرافها، أحست كأن الجدران تضيق عليها، نهضت متمايلة، خطواتها مثقلة كأنها تحمل خمرًا في دمها، واتجهت نحو الشرفة دفعت زجاج النافذة بعنفٍ مكتوم، واندفعت لتلتقط الهواء بأنفاسٍ متقطعة لكن كل نفس كان يحرق صدرها أكثر مما يطفئه، في أعماقها دوّت اللعنات، تلعن والدها الذي حطم حياتها، وتلعن القدر الذي جعلها عالقة في جسد أنثى تُخفي في داخلها لعنة قاتلة.
بعد لحظات من الصراع، تماسكت بجهد وعادت إلى الصالون، تقدّمت نحو رحيل بابتسامة شاحبة تستأذنها في المغادرة، لكن عيني تميم وأرغد لم تفلتا حركتها؛ التقطا كل ارتعاشة في يدها، وكل اضطراب في خطواتها، تبادلا نظرات سريعة، مليئة بالشكوك، وفي عيونهما ألف سؤال لم يجد طريقًا للخروج.
اقترب تميم من أرغد، وانحنى قليلًا يهمس في أذنه بصوت مشحون بذهول ودهشة:
"يا نهار ابيض!! ايه الصدفة الغريبة دي؟! معقول اللي احنا شايفينه ده؟! دي نفس البنت اللي بندوّر عليها ودايخين وراها؟!"
أجابه أرغد باندهاش مكتوم:
"معقول تكون جاية ترتكب جريمة جديدة؟! بس هي تعرف رحيل وأسرتها منين؟!"
لم يصبر تميم، فاتجه سريعًا بنظره إلى والد رحيل يسأله:
"بعد إذنك يا عمي، البنت اللي خرجت دلوقتي دي مين؟"
ابتسم الرجل ببرود، وقال بنبرة هادئة:
"دي بسيل النوري، صاحبة رحيل من أيام المدرسة."
لمع الشر في عيني تميم، فبادر بسؤال آخر:
"طيب هي ليه لابسة جوانتي وكمامة رغم الحر اللى احنا فيه ده؟"
تدخلت رحيل، محاولة طمأنته:
"عشان مناعتها ضعيفة، ممكن تتعب من أي فيروس، عشان كدا بتفضل لابساهم ع طول."
تبادل أرغد وتميم النظرات مجددًا، وكل منهما يقرأ في عيني الآخر ذات السؤال المرعب:
"هل رحيل بريئة وساذجة أم أنها تعرف أن صديقتها ليست سوى الكوبرا، وتغطي على سرّها الأسود؟"
تبادلت عينا أرغد وتميم نظراتٍ صامتة، لكنها كانت كافية لتترجم ما يعتمل في داخلهما من يقين، لم تعد الشكوك مجرد هواجس، لقد صارت شبه حقيقة تتجسد أمام أعينهما. ارتعشت أنامل تميم وهو يطبق على ذراع رفيقه، وصوته يخرج هامسًا لكنه حاسم:
"حاول تعرف عنها أى حاجة من خطيبتك، عشان نقدر نتابعها، ونجيب الدليل اللي يوقعها."
أومأ أرغد برأسه، ملامحه متصلبة، وداخله يغلي كبركان يكاد ينفجر:
"هحاول أكيد، بس شوية كدا عشان ماحدش يشك فـ حاجة."
هز تميم رأسه تعبيرًا عن موافقته، حتى ساد بينهما صمت ثقيل، كأن الهواء نفسه يترقب قرارهما، ثم نهضا ببطء، عيناهما مثبتتان على الباب الذي خرجت منه بسيل منذ لحظات، كانت خطاهما محسوبة، تتخفى وسط ضجيج العائلة وفرحة الخطبة، بينما في أعماق كلٍّ منهما كان هناك عهد لا عودة فيه:
لن يغمض لهما جفن حتى تقع الكوبرا البشرية في الفخ.
__________________________
فيلا سليمان النوري
خرجت بسيل من بيت رحيل بخطواتٍ سريعة كأنها تهرب من مكانٍ يوشك أن ينفجر، كمامة تُغطي نصف وجهها، وقفازان يُخفيان ارتجاف أصابعها التي لم تكفّ عن الارتعاش، الليل كان يضغط على صدرها ككابوس ثقيل، وأضواء السيارات تصطفّ باردة على جانبي الطريق، لكنها لم تكن ترى شيئًا. كل ما يملأ كيانها هو اسم أرغد، يتردّد في عقلها كجرسٍ نحاسي يقرع بلا هوادة، وصوت قلبها الذي يخبط بجنون كأجراس جنازة تُعلن موتًا قادمًا.
حين عادت إلى منزلها تلبّسها شعور غريب لم تعرفه من قبل، إحساس مُشوَّش يجمع بين سعادة مريضة وخوف مبهم كلما تذكّرت نظرات أرغد وطلّته أمامها، شعرت كأن روحها تنتفض لأول مرة منذ سنوات همست لنفسها، وابتسامة مشوشة ترتسم على وجهها:
"لازم أعالج نفسي، لازم أبقى طبيعية عشان اعرف أعيش، عشان أحب وأتحب وأتجوز اللي خطف قلبي."
لكن الطريق لم يكن واضحًا أمامها، فاللعنة التي تسكن دمها لا تهدأ إلا بالدم، أيامٌ ثقيلة مرّت عليها، وكلما ذكرت رحيل اسم أرغد في حديث عابر، اشتعلت النار في أحشائها، نار غيرة وحقد، حتى لمعت في عينيها فكرة مسمومة، قبل أن تُفكر في علاج نفسها، عليها أولًا أن تتخلص من رحيل.
هاتفَت الرفاعي كما اعتادت، ليجلب لها السم، لكنه لم يكن يعلم أن القدر يقترب منه بخطواتٍ خفية، انتزعت منه ما أرادت ببرودٍ قاتل، ثم تركته يغادر الفيلا مطمئنًا، وهو لا يدري أن أنفاسه التي يزفرها في تلك اللحظة هي آخر ما تبقى له من حياة، تبعته متخفية في زيّ رجل، ترتدي كابًا يخفي ملامحها مع الكمامة والقفازات، ظلّت تراقبه حتى دخل منزله آمِنًا، ثم تسللت بخفة أفعى من نافذة خلفية إلى المطبخ، قطعت خرطوم الغاز، وفصلت الكهرباء، وخرجت كما دخلت دون أن يلحظها أحد.
جلست في سيارتها تترقّب، وفي دقائق معدودة تحوّل البيت إلى كتلة نيران، ينفجر كبركان هائج، ارتسمت على شفتيها ابتسامة باردة، وعادت إلى بيتها بخطوات هادئة كأنها لم تفعل شيئًا، هناك، غرست آخر إبرة في جسدها، استعدادًا لجريمتها القادمة.
ومرّت الأيام ثقيلة، وبسيل تبحث عن الفرصة التي تُسقط بها رحيل من حياتها. حتى جاءها الخبر الذي انتظرته طويلًا، والدا رحيل سيسافران إلى بيت جدتها المريضة، فتوسّلت إليها صديقتها أن تبقى معها حتى يعودا. طلبٌ بريء، لكنه بالنسبة لبسيل كان أشبه بهدية على طبقٍ من ذهب.
في تلك الليلة، جلست بسيل في غرفتها والظلال تتراقص على جدرانها، عيناها تقدحان بشررٍ غامض، وفمها يخطّ ابتسامة لم تكن تشبه ابتسامة البشر. كان قلبها يقرع بانتظار اللحظة الحاسمة، كطبول حربٍ تقترب من ذروتها. كل شيء بدا وكأنه يتآمر معها: الليل، الصمت، ورغبتها الملعونة.
_______________________
في مكتب أرغد
بعد مرور أسبوعين من خطبة أرغد ورحيل، جلس أرغد في مكتبه، عيناه غارقتان في الأوراق المبعثرة، وأفكاره تدور في دوائر مغلقة حول بسيل، تلك الفتاة التي لا تُشبه إلا اللعنة. كان ينتظر تميم ليُطلعه على ما وصل إليه، بينما يضغط بأصابعه على سطح المكتب كمن يُحاول السيطرة على صبره. التقط الملف بين يديه، ثم وقّع طلب الإذن من النيابة العامة لمراقبتها، يدرك أن الوقت حان لمحاصرتها.
لم تمضِ دقائق حتى طرق تميم الباب بخفة، فأذن له بالدخول. فتح الباب بخطوة واثقة، وابتسامة واسعة ارتسمت على وجهه وهو يلقي بجسده على الكرسي المقابل:
"أرغد باشا العريس، منور مكتبك يا كابتن، عامل ايه مع العروسة؟"
ارتسمت على شفتي أرغد ابتسامة مرهقة، ونهض من خلف مكتبه ليجلس أمام صديقه وهو يبادله المداعبة:
"يا ابني أنا أصلا منور الدنيا كلها مش مكتبي بس، أنا وعروستي زي الفل، مش طايقين بعض خاااالص!"
ضحك تميم بصوت عالٍ حتى مال بجسده للأمام، وقال بنبرة مازحة:
"شكلك لبست فـ حيط يا ضنايا، ومش عارف تخلع ههههههه."
أرغد أطرق رأسه قليلًا، ثم رفع عينيه بجدية:
"أبدًا والله، البنت هادية جدًا وأهلها ناس محترمين. بس هي شكلها لسه متعلقة بخطيبها اللي مات ومش قادرة تتقبل ارتباطنا."
ارتسمت على ملامح تميم علامات الدهشة:
"هي كانت مخطوبة قبل كدا؟!"
أومأ أرغد ببطء:
"آه، وتخيل بقى كانت مخطوبة لمين!"
تميم، وقد اقترب أكثر بعينيه المتسعتين:
"لمين؟"
أرغد، بصوت منخفض:
"دكتور عماد، اللي حققنا فـ حادثة موته في المطعم من 3 سنين."
تسمرت عينا تميم، وانفرج فمه بدهشة:
"أوبااااااا! يا نهار ع الصدف! يعني عماد كان خطيب رحيل؟! واللي قتلته تبقى بسيل صاحبتها؟! معقول تكون صدفة؟!"
هزّ أرغد رأسه نافيًا:
"لأ مش صدفة، بس في سر فـ الموضوع ده، يمكن كانوا ع علاقة ببعض وانتقمت منه لما سابها وخطب صاحبتها، أو يمكن قتلته لسبب تاني؟ الله أعلم"
ارتسمت على وجه تميم علامات الاستفهام:
"طب، إنت ناوي تعمل إيه دلوقتي؟"
أرغد أشار بيده إلى الملف الذي أمامه، وعينيه تلمعان بالتصميم:
"بص، بعد اللي عرفته عنها، ناوي أراقبها وأعد عليها أنفاسها، عشان كدا طلعت إذن من النيابة بمراقبتها لحد ما تقع متلبسة وأقبض عليها."
ألقى تميم جسده للأمام باهتمام:
"وعرفت عنها إيه بقى يا باشا؟"
امسك أرغد الملف وفتحه وقلّب أوراقه وهو يجيب بصوتٍ واثق:
"شوف يا سيدي، اسمها بسيل سليمان النوري، 25 سنة. مسكت شركة أبوها بعد موته من كام سنة بلدغة عقرب. ومن يومها خلّت الشركة دي أضخم شركة استيراد وتصدير في الشرق الأوسط، لكن الأغرب من كدا، لما رجعت بالتحقيق لورا 16 سنة، لقيت إن أبوها، كان مجرد راجل عنده شركة صغيرة. وفجأة الشركة كبرت بشكل غريب. وبالبحث لقيت إن في الفترة دي حصلت سلسلة جرائم قتل لرجال أعمال كبار واللي وراها كان سليمان النوري، وكان سلاحه الوحيد هى بنته."
تميم وقد اتسعت عيناه:
"نعم يا خويا؟! إزاي بقى؟!"
اقترب أرغد بجسده للأمام، وصوته انخفض كأنه يحكي لغزًا مخيفًا:
"سليمان كان لما يحب يخلص من منافس له، بيرتب معاه مقابلة. وقبل ما تنتهي بثواني، تظهر بسيل مرة واحدة بس من غير كمامة وجوانتي، كأنها جاية تتعرف على ضيف والدها. ثواني وتكون جرحت إيده وهي بتسلم عليه، ومع رذاذ أنفاسها المسمومة فـ وشه، الموضوع يخلص للأبد."
تميم وقد أطلق صفيرًا قصيرًا:
"وطبعًا المقابلات دي، بتكون فـ مكان عام مش فـ بيته؟!"
أرغد:
"أكيد طبعًا، ده غير إن سليمان كان مخبي بنته أصلًا، محدش يعرفها وما بتظهرش غير للي محكوم عليه بالموت بس. وبيبقى ده الظهور الأول والأخير."
تميم همس ساخرًا ثم قال:
"يا ابن اللعيبة يا سليمان، وانت عرفت الكلام ده إزاي يا باشا؟"
أرغد زفر ببطء:
"من سواق رمزي الوزّان، واحد من ضحاياهم. كان معاهم فـ آخر مرة اتعشوا سوا، وهو خارج شافها نازلة من عربيتها، سلّمت ع أبوها، وقربت تسلّم ع رمزي قبل ما يركب عربيته بثواني. وبعدها حصل اللي حصل."
تميم وقد رفع حاجبيه بصدمة:
"عايز تقول ان رمزي الوزّان اتقتل؟! بس إزاي؟! أنا فاكر إنه مات بأزمة قلبية."
أرغد:
"ده اللي اتقال للناس، ولاده كتموا ع الخبر لغرض في نفسهم. لكن أمر ربنا نفذ قبل ما يعملوا اللي كانوا بيفكروا فيه."
صمت لحظة ثم أضاف بنبرة مشدودة:
"بس الأغرب، إن الجرايم ما وقفتش بعد موت سليمان. بالعكس استمرت. ودي كانت إشارة واضحة إن بسيل قررت تكمل مسيرة أبوها."
تميم وهو يضع يده على ذقنه بتفكير:
"اممممم، كدا فعلا مافيش حل غير إننا نراقبها. ونعرف ناوية ع مين المرة دي."
أغلق أرغد الملف بعنف، فارتدّ صوته في أرجاء المكتب كصفعةٍ حادة كسرت الصمت، ارتجفت الأوراق في مكانها وتبعثرت بعض الصفحات على الطاولة. فانعكس الغضب في ملامحه، وعيناه تتقدان بعزمٍ لا يعرف التراجع. رفع رأسه نحو تميم، نظرة واحدة كانت كافية لتعلن أن القرار قد اتُخذ: لا مجال للهروب بعد الآن، ولا بد أن تسقط بسيل في قبضتهما مهما كلّف الأمر.
________________________
في بيت رحيل
بعد مرور يومين، انفتحت أبواب الليل على مشهد متوتر؛ خرجت بسيل من فيلتها بخطوات واثقة ظاهرًا، لكن ملامحها كانت مضطربة، عيناها زائغتان كمن يهرب من نفسه أكثر مما يهرب من الناس. جلست خلف مقود سيارتها، وانطلقت كالسهم تشقّ شوارع القاهرة التي تسبح تحت أضواء المصابيح الصفراء الشاحبة، كأن المدينة كلها تراقبها وتفضح سرّها.
خلفها مباشرة، كان أرغد يلاحقها بسيارته، أصابعه تقبض على عجلة القيادة بقوة حتى ابيضّت سلامياته، عينيه متيقظتان لا ترمشان، كل نفس يزداد ثقلاً مع شعوره بأن المواجهة تقترب، بجانبه تميم يترصّدها بعين الصقر، يُسجّل في ذهنه كل حركة، كل انحراف مفاجئ، كل تردّد في سرعتها.
كل منعطف تسلكه بسيل كان كطعنة جديدة في أعصابهم؛ الشك يلتهمهما من الداخل، هل تقودهم إلى مسرح جريمة على وشك أن يُكتب بدماء جديدة؟ أم أنها تخبئ سرًّا أعظم، لغزًا يضرب بجذوره أعمق مما تصوّرا يومًا؟
وصلت بسيل إلى بيت صديقتها، غافلة عن تلك العيون التي تترصدها. صفّت سيارتها تحت العمارة وصعدت السلم بخطوات مترددة، كل حركة كأنها تثقل صدرها أكثر. تلتفت حولها بقلق، تبحث عن عينٍ تفضحها أو همسة تكشفها، حتى وصلت إلى الطابق الذي ينتظرها فيه قدرها الأسود.
ارتجفت يدها وهي تطرق الباب، وانتفض جسدها كله وهي تنتظر. لحظة قصيرة بدت كأنها عمر كامل، حتى فُتح الباب لتطلّ رحيل بملامحها البريئة، لم تدرك أنها تستقبل قاتلتها.
ابتسمت بسيل ابتسامة مُرتبكة وقالت بنبرة تحمل دفئًا مُصطنعًا:
"رحلتي، خلصت شغلي وروحت غيرت هدومي وجيتلك جري، زي ما وعدتك وهنقضي أحلى يومين سوا."
خفق قلب رحيل بقوة غريبة، كأن شيئًا مجهولًا يطرق أعماقها، لكنها أخفت ارتباكها وضحكت:
"أحلى بيسا في حياتي يا ناس هنعمل كل حاجة نفسنا نعملها في اليومين دول."
ضحكت بسيل ضحكة خبيثة تُخفي عاصفة بداخلها، وقالت:
"طبعًا يا رحلتي، وأول حاجة نعملها، ندخل المطبخ نعمل عشا بإيدينا. ومش بس كدا، هقلع الكمامة والجوانتي كمان عشان أبقى ع راحتي معاكي."
تلألأت عينا رحيل ببراءة:
"قلب رحيل يا بسبوستي، أخيرًا هشوف وشك وأملّي عيني بجمالك."
ابتسمت بسيل ابتسامة ماكرة وقالت:
"شوفتي؟ آن الأوان. يلا نعمل العشى بقى عشان أنا جعانة جدًا."
دخلتا المطبخ سويًا، رحيل تُعد الطعام بمرح، بينما عين بسيل ترقب اللحظة الحاسمة. أزالت القناع والقفازات كمن يؤدي طقسًا مقدسًا، وما أن سنحت الفرصة حتى مدت يدها الغادرة، ونفثت سمّها في طبق صديقتها.
خرجتا بعدها تحملان الطعام، وجلستا على المائدة، ورحيل لا تعلم أن اللقمة الأولى قد تكون الأخيرة.
بينما كان أرغد يراقب خطوات بسيل المضطربة لحظة نزولها من السيارة، أحس أن خطرًا يوشك أن ينفجر في وجهه. حدّة توترها فضحت نواياها، فأدرك أن خطيبته مهددة، وأن الأمر لا يحتمل الانتظار. أصابعه المرتجفة ضغطت على هاتفه وهو يأمر رجاله بالتحرك فورًا.
التفت إليه تميم بريبة، عيناه تراقبان صديقه وكأنهما تحاولان كشف سر قراره المفاجئ، ثم رفع حاجبه متسائلًا بحدة:
"اتصلت بالقوة تيجي ليه؟"
لكن أرغد لم يلتفت. فتح باب السيارة، فاندفع خارجًا كالسهم، يركض بخطوات مشتعلة وكأن الأرض تحته صارت جمرًا حارقًا. قفز درجات السلم قفزًا، متجاوزًا أكثر من سلمة في كل مرة، فيما كان تميم يلهث خلفه، قد أدرك أن صديقة بسيل الوحيدة ستتحول في أي لحظة إلى ضحية جديدة.
لم يكد أرغد يصل حتى ضغط زر الجرس بعنف، وفي ذات الوقت دق الباب بقبضته طرقًا مدويًا، كأن رعدًا يهدر في أرجاء المكان.
داخل الشقة، ارتجفت رحيل من وقع تلك الطرقات، تركت الطعام الذي كادت ترفعه إلى فمها، وقلبها يخبط في صدرها بخوف لا تفسير له. اقتربت من الباب بحذر، وما إن فتحته حتى اندفع أرغد بقوة، دافعًا إياها جانبًا، وخلفه تميم يلحقه.
ألقى أرغد نظرة خاطفة على المائدة، لم يتردد، التقط الطبق من أمام رحيل وقذف به في سلة المهملات، محتفظًا بعينة صغيرة منه بين يديه، وعيناه تلمعان بيقين مرعب. في ذات اللحظة كانت بسيل قد ارتدت كمامتها وقفازيها بسرعة خاطفة، محاولة أن تختفي وراء قناعها قبل أن تُفتضح.
رحيل، التي لم تستوعب بعد ما جرى، صاحت غاضبة وشرارات التحدي في عينيها:
"أنت ايه اللى انت عملته ده؟ إزاى تدخل تهجم علينا بالشكل ده؟ وكمان ترمي الأكل فى الباسكت كدا؟"
أرغد، الذي كان صدره يعلو ويهبط باضطراب، أجابها بصوت يقطر خوفًا وحبًا:
"عملت كدا لمصلحتك يا رحيل."
ثم التفت بعنف نحو بسيل، صوته صار أشبه بطلقة:
"أخيراً وقعتى فى إيدى يا بسيل بعد ما دوختينى وراكى سنين وانا بدور عليكى، اتأكد بس من تحليل العينة اللى فـ إيدى وساعتها مش هارحمك وماحدش هيوصلك لحبل المشنقة غيرى."
في تلك اللحظة، تسارعت ضربات قلب بسيل حتى صارت مسموعة، تشتعل في صدرها كطبول حربٍ توشك أن تنفجر. وجهها احمرّ كبركان يثور، لكنها، عوضًا عن الانكسار، أطلقت ضحكة ساخرة، عيناها تتقدان جنونًا:
"تخيل!! كنت عارفة أن نهايتى على إيديك."
تميم، الذي لم يصدق برودها، شهق مذهولًا:
"هو انتى أزاى بالبرود ده؟! أنتى أيه يا شيخة؟ ده انتى غلبتى الشيطان نفسه وعملتى اللى ما يخطرش على باله."
لكنها رفعت رأسها ببطء، نظرتها كفحيح الأفعى وهي ترد:
"وعندى إستعداد أعمل أكتر من كدا فى أى حد هيقف فى طريقى، فخلى بالك من نفسك."
اقترب تميم خطوة، صوته متوتر:
"أزاى قادرة تتكلمى بالثقة دى؟ لا وكمان بتهددينى وانتى عارفة اننا جايين نقبض عليكى!"
رحيل، التي تجمدت في مكانها، سألت باندهاش لم تستطع كتمه:
"تقبض عليها؟! تقبض عليها ليه؟"
اقترب أرغد منها بخطوات حذرة، صوته خفيض لكنه مشحون بالمرارة:
"بسيل صاحبتك مجرمة وقاتلة وللأسف كانت هتقتلك أنتى كمان."
وقع الكلمات على أذن رحيل كان كالسوط، اتسعت عيناها بالدموع، قلبها يتخبط بين التصديق والإنكار، ثم التفتت إلى صديقتها بصوت يرتجف:
"الكلام اللى بيقوله أرغد ده صحيح؟ انتى كنتى عايزة تقتلينى يا بيسا؟"
اشتعل وجه بسيل بالغضب، كأن القناع سقط تمامًا، وزفرت بحرارة لاهبة:
"أيوا كنت هقتلك، لو كان اتأخر دقيقة واحدة بس كنتى أكلتى من الطبق اللى بخّيت فيه سمي وما كانش قدر ينقذك."
هنا شعرت رحيل بدوار قاتل، جسدها يترنح، لولا أن ذراع أرغد احتواها قبل أن تسقط. خرج صوتها من أعماق الانكسار:
"ليه يا بسيل؟ أنا عملت لك إيه عشان تقتلينى؟ ده أنتى صاحبتى الوحيدة، معقول تعملى فيا كدا؟"
امتعض وجه بسيل، وصاحت بصوت متصدع أشبه بصرخة مكلومة، كأنها تُلقي أحمال سنوات من القهر دفعة واحدة:
"وأنا كنت عملت أيه عشان أتحرم من الحياة الطبيعية زى أى بنت فى سنى؟ ذنبى ايه أعيش وانا حاسة أنى منبوذة وخايفة أتعامل مع الناس؟ خايفة يعرفوا حقيقتى يبعدوا عنى، تقدرى تقوليلى ذنبى أيه إن يكون دمى فيه كل صفات الكوبرا بالذات؟ اللى هى أخطر أنواع الأفاعى!"
انهارت فجأة على ركبتيها، وسالت دموعها كطوفانٍ لا يتوقف، لتسترسل بمرارة ممزوجة بصرخات وجع مكبوت:
"كل ذنبى إنى أتولدت من أم أجنبية كان دمها فيه سم الأفاعى اللى ورثته منها، وأب أنانى أستغلالى بدل ما يعالجنى غذانى بالسم أكتر وقضى على طفولتى وبرائتى وعلمنى أزاى أقتل أى حد، لمجرد انه يكبر فى السوق ويبقى من أكبر رجال الأعمال."
رفعت عينيها الغارقتين بالدمع إلى أرغد، وصوتها يرتجف كطفلة فقدت حضنها الوحيد:
"كان نفسي أعيش زى البنات، أحب وأتحب، أعمل بيت وأسرة... كرهت.. أه، حقدت، نقمت، حسيت بالنار بتنهش فيا وأنا شايفة رحيل بتحب وتتخطب وانا لأ. قتلت عماد زى ما قتلت غيره علشان أكسرها. لما جيت أنت تتقدم لها حسيت بشعور اول مرة أعيشه... أول مرة أعرف يعنى أيه حب، يعنى أيه قلبى يدق بعد ما كنت خلاص فقدت الأمل إن قلبي يعيش مرة تانية. قررت اتعالج علشان خاطرك أنت، بس كان لازم أخلص من رحيل الأول... وبعدها كنت هروح أتعالج وأنقى دمى علشان أقدر أقول أنى بحبك يا أرغد وعايزة أكمل حياتى معاك."
ارتجف قلب تميم وهو يراها على هذا الحال. تجلّت في عينيه شفقة جارفة امتزجت بحبٍ يطرق ضلوعه بعنف، وغضب صامت يتأجج ضد ماضيها الذي سُلبت فيه براءتها. تذكر كيف أمضى ثلاث سنوات في البحث، يربط بين الجرائم واحدة تلو الأخرى حتى اكتشف أنها الخيط الوحيد المشترك، منذ أول جريمة ارتكبتها وهي طفلة في الثالثة عشرة... إلى أن جاءت ساعة الحقيقة.
جلس أمامها، ونبراته تحمل دفء إنسان يرفض أن يدفنها في خانة الجناة:
"عارف انك مالكيش ذنب فـ قدر اتفرض عليكي وانتي طفلة، بس ليه لما كبرتي ما ثورتيش عليه؟ ليه استسلمتي وكملتي طالما عارفة ان في علاج؟"
رفعت وجهها نحوه، والدموع تنحدر فوق وجنتيها، يتلوها على شفتيها ابتسامة ساخرة مشوبة بالمرارة:
"مين قالك أني ما حاولتش؟ او ما جاش عليا يوم وندمت؟ بالعكس انا حاولت كتير، خوفت، اترددت، وكتير كنت برفض، بس سليمان النوري كان بيعرف يرجعنى تاني عن قراري، بأسلوبه الناعم اللى زى الأفاعي."
ثم ارتج جسدها في ضحكات هستيرية عالية، جعلت تميم ينكمش اندهاشًا وهو يرمقها بقلق:
"بتضحكي ع ايه؟"
اندفع أرغد غاضبًا، صوته يكاد ينفجر كبركان:
"جرا إيه يا دكتور؟ انت هتقعد تتساير معاها؟! بدل ما تسيبني أحط الكلبشات فـ إيديها؟"
رفع تميم رأسه إليه بنظرة حادة ولكن هادئة، كأنه يحاول أن يُطفئ اللهيب المتفجر:
"ممكن تهدى شوية يا حضرة الظابط وتركن مهنتك دي ع جنبك؟ اسمع منها بقلب إنسان يا أخي."
ثم عاد ينظر إلى بسيل بصوتٍ متسائل يقطر إنسانية:
"ما قولتليش بقى... بتضحكي ليه؟"
توقفت عن ضحكها فجأة، زفرت أنفاسها الثقيلة، ثم أسدلت جفنيها بحزن دفين، قبل أن تتمتم بمرارة:
"بضحك ع مفارقات القدر... سليمان النوري اتجوز أفعى وخلف كوبرا. هستنى منه ايه يعنى؟ غير إنه يكون شارب من سمهم ويتعامل بنعومة زي التعابيين لحد ما يوصل لغرضه."
ابتسم تميم ابتسامة شاحبة، تحمل حزنًا عميقًا على فتاة ضحية قدرها وقاتلة بسلاحها، وكأن ابتسامته كانت اعترافًا بعجزه أمام مأساتها:
"طب ليه بعد موته كملتي فـ نفس الطريق؟"
رفرفت عينا بسيل المتورمتان من كثرة البكاء، تدور بنظراتها على الثلاثة كأنها تبحث عن منفذ نجاة، ثم أطلقت تنهيدة ثقيلة هزّت صدرها قبل أن تعود ببصرها إلى تميم:
"تفتكر واحدة فـ سني وحيدة... ماليش أهل، ولا عندي حد اتحامى فيه، وعندي شركة كبيرة وعايشة فـ فيلا طويلة عريضة لوحدي... حتى مافيش خدامين يكلموني وأكلمهم... كنت هعرف أعيش لو بطلت اللي بعمله وسيبت الطريق ده؟ إحنا عايشين وسط غابة يا دكتور، والشاطر هو اللي يعرف يحمي نفسه فيها بأي طريقة... أي طريقة مهما كانت."
مال تميم بوجهه نحوها دون أن يشعر، كأن شيئًا أقوى منه يشده إليها، وقلبه يخفق بجنون لم يختبره من قبل، وصوته يخرج محمّلًا بالحزن:
"انتى عارفة انك هيتقبض عليكي وتتحاكمي؟"
ابتسمت بلا مبالاة، وكأنها تسخر من قدرها:
"مابقتش فارقة... اهو كدا سجن وكدا سجن."
تميم، بقلق يطغى على صوته:
"ممكن تتعدمي؟"
بسيل، وعينيها تبرق بدموع محبوسة:
"يبقوا رحموني من عذاب ضميري."
في تلك اللحظة، تقدمت رحيل وجلست أمامها، عيناها غارقتان في دموع غزيرة، وصوتها يختنق بحرقة:
"ليه ما قولتليش الحقيقة؟ ليه ما شاركتنيش وجعك يمكن كنت أقدر اساعدك؟"
رفعت بسيل نظرها إليها، والندم يتفجر في عينيها، أشارت إلى فمها المرتجف ثم فردت كفيها وصرخت بانهيار، صوتها يتشظى كالزجاج المكسور:
"تفتكري لو كنت قولتلك إني لابسة الكمامة دي عشان رذاذ انفاسي مسموم، ولابسة الجوانتي ده عشان أي جرح من إيدي لأي حد حتى لو من غير قصد هيموت، كنتي هتعرفيني تاني؟ كنتي هتكمممملي معاياااااااا؟"
رحيل، بحرقة تنزف من قلبها:
"كنتي جربيني؟ ده أنا ياما سألتك عن سر الكمامة والجوانتي؟"
بسيل، بصوت يتقطع بين البكاء والمرارة:
"أحكيلك؟ وأخسر الأمل الوحيد اللي بيخليني أحس إني عايشة؟ تعرفي إني كنت مخبية علاقتي بيكي عن بابا عشان ما يمنعنيش منك؟"
رحيل، والدموع تخنقها:
"يعني انتي كنتي شايفة إني الأمل اللي بيخليكي تعيشي، طب ليه كنتي عايزة تقتليني يا بسيل؟"
أغمضت بسيل عينيها بألم عميق، كأنها تطفئ نارًا تشتعل بداخلها، ثم فتحتها لتنظر إليها بمرارة قاتلة:
"عشان غيرت منك... غصب عني غيرت وحقدت عليكي، كان نفسي أعيش حياة هادية زيك... تعبت من التخفي ورا الكمامة والجوانتي صيف شتا."
زفرت بقهر، ثم رفعت نظرها إلى أرغد، ابتسامة سخرية مرتجفة ترتسم على وجهها:
"بس خلاص يا رحلتي... انتهت، جيم أوفر. شوف شغلك يا حضرة الظابط، اتفضل حط كلبشاتك فـ إيدي وأقبض عليا."
اقترب أرغد منها ليضع الكلبشات في يديها، لكن فجأة وقف أمامه كل من تميم ورحيل، يشكلان جدارًا من لحم ودم يحول بينه وبينها.
اشتعل أرغد غضبًا، ملامحه تنفجر كالبركان، صرخ فيهما:
"هو في إيييه؟ انتوا هتقفوا تدافعوا عن مجرمة؟ عارفين قتلت كام واااااااحد؟ وسعوا من وشي، ما تخلونيش أتهور وأقبض عليكوا انتوا كمان بتهمة التستر ع مجرمة."
رحيل، بنبرة متمردة وغضب مكتوم، مدت يديها أمامه متحدية:
"وانا مش هوسع يا أرغد، اتفضل اقبض عليا معاها، اتفضل... يلا مستني إيه؟"
أرغد، مذهول من جنونها:
"دي كانت هتقتلك يا مجنونة؟"
رحيل، والدموع تلمع في عينيها:
"وانا مسامحاها."
أرغد، غاضبًا:
"وسعي يا رحيل من فضلك!"
رحيل، بصلابة قلبها الجريح:
"مش هوسع يا حضرة الظابط... إما تاخدني معاها أو تسيبها معايا. الاختيار ليك... قولت إيه؟"
اقترب تميم بخطوات بطيئة لكن ثابتة، صوته يقطر هدوءًا قاتلًا، يحاول أن يثبّت صديقه المشتعل:
"أسمعني يا أرغد، أنا عارف إننا تعبنا كتير، وبقالنا سنين بندور عليها لحد ما وصلنا لها، لكن ماكناش نعرف ظروفها ولا ايه اللي دفعها تعمل كدا. بس دلوقتي بعد ما عرفنا، واجبنا نساعدها، مش نحكم عليها بالموت."
أرغد، صرخ كمن يحارب نفسه:
"انت باين عليك اتجننت؟! دي قاتلة! يعني مجرمة ولازم تتحاكم ع جرايمها."
تميم، وصوته يرتعش بمزيج من حب وغضب مكتوم:
"سيبها يا أرغد... واوعدك إنها مش هتعمل أي جرايم تانية. وأنا بنفسي هعالجها لحد ما تبقى إنسانة طبيعية."
أرغد، والدم يغلي في عروقه:
"انت عايزني أخالف شرف مهنتي؟ أخالف القسم اللي حلفته؟! مستحيل... حتى لو اقتنعت إنها ضحية، برضو لازم تاخد جزائها."
وقفت بسيل، ووجهها يحمل استسلامًا عميقًا، ابتسامة حزينة مرسومة على ثغرها:
"نفّذ واجبك يا حضرة الظابط... ماتسمعش لحد غير صوت ضميرك، عشان ما يجيش عليك يوم وتندم زيي."
ثم التفتت إلى رحيل، التي كانت غارقة في بكاء مرير:
"سامحيني يا رحيل ع كل وجع وكل حزن سببتهولك."
أحاطتها رحيل بذراعيها، تشدها بقوة إلى صدرها:
"مسامحاكي يا بيسا ع اللي عملتيه فيا... بس مش مسامحاكي ع الحقيقة اللي خبتيها عني من سنين. لو كنتي قولتيلي وقتها، يمكن كنا نقدر نمنع حاجات كتير."
بسيل، بصوت خافت متهالك:
"ده قدري... وماكنتش أقدر أهرب منه حتى لو قولتلك."
تحررت من حضن صديقتها بخطوات مترددة، تقدمت نحو أرغد، وابتسامة وداع ترتسم على وجهها:
"مع السلامة يا رحلتي هتوحشيني. ابقي تعالي زوريني ولما يعدموني، اترحمي عليا."
ثم التفتت نحو تميم، عيناها تلمعان بامتنان:
"متشكرة جدًا ع موقفك النبيل ده يا دكتور، رغم إنك انت اللي كشفتني، بس سمعتني وصدقتني ودي عندي كفاية."
هتف تميم بغيظ وهو يحدّق في صديقه:
"وأنا مش هسيبك، هشوفلك أكبر محاميين يخرّجوكي أو حتى تاخدي حكم مخفف. هخليها قضية رأي عام وأساعدك تتعالجي."
ابتسمت بسيل ابتسامة مكسورة، كأنها شظايا وجهٍ متهالك:
"حتى دي ما بقتش تنفع يا دكتور تميم."
خطت نحو أرغد بخطوات بطيئة، تحمل بين طياتها استسلامًا موجعًا، وعلى وجهها ابتسامة وداع تحاول أن تبدو قوية، بينما المكان يضيق شيئًا فشيئًا، الهواء يثقل حتى صار يُخنق أنفاس الجميع، وكأن اللحظة الأخيرة تُسدل ستارها على مسرحٍ امتلأ بالذنب والغفران والخذلان.
هرعت رحيل نحو أرغد، ودموعها تنهمر كالمطر، وجنتاها تغرقان من فيضان ألمها، وقفت أمامه تتوسل بصوتٍ مبحوح:
"أرجوك يا أرغد سيبها، عشان خاطري... بلاش تقبض عليها."
ارتجف صدر أرغد بزفرة طويلة، ألقى كلماته بهدوءٍ مثقل بالواجب: "ما ينفعش يا رحيل، صدقيني... أنا معايا إذن نيابة، ثم إنها معترفة."
هتف تميم بوجعٍ يعصر قلبه:
"كانت ضحية أبوها يا أرغد... مجبرة على كل اللي عملته."
اقترب أرغد من صديقه، عيناه تومضان بصرامة القانون، وصوته يخرج مثقلاً بالمسؤولية:
"انت اللي بتقول كده يا تميم؟! للأسف حتى لو كانت ضحية أبوها، هي اختارت تكمل برغبتها في نفس الطريق... وانت عارف القانون كويس. هي بالغة ورشيدة، يعني هتتحاكم وتتحاسب على أعمالها. وحتى الرأي العام... هيقف ضدها مش معاها."
أنهى كلماته بصرامة، ثم أشار لرجاله، فانقضوا عليها ليكبّلوا يديها بالأصفاد الباردة. انكسرت رحيل وهي تراها تُساق من أمامها، وارتعش قلبها بصرخة صامتة لم تخرج، بينما أرغد خرج خلف رجاله بخطوات مثقلة، يحمل ضميره في كفة، وواجبه في كفة أخرى.
أما تميم، فقد انفجر داخله إعصار، خرج من المكان مهرولًا كالمجنون، يضرب قدميه على الإسفلت وهو يجوب الشوارع بلا هدى. كان قلبه يصرخ به أن يخطفها من بين أيديهم ويخبئها بين ضلوعه، بينما عقله يجلده: "أرغد على حق... الواجب أولًا." ظل ممزقًا بين قلبٍ يهوي إليها بجنون، وعقلٍ يجره نحو حافة الواجب.
مرت الأيام ثقيلة كالحديد على صدورهم جميعًا.
النيابة قررت تحويل أوراقها إلى المحكمة الجنائية.
أرغد شعر بارتياح ضميره، لكنه حمل في قلبه ندبة حزينة على خطيبته رحيل، التي انهارت بعد أن اكتشفت كل الحقائق الموجعة.
رحيل أغلقت أبواب غرفتها عليها، تعيد شريط الذكريات مع بسيل منذ أول لقاء وحتى لحظة القبض عليها، وقررت أن تخفي عن والديها الحقيقة لتتمكن من زيارتها في محبسها.
أما تميم، فقد صار أسير قلبه؛ يزورها كل يوم، يمدّها بالطعام والدواء، ويوكّل كبار المحامين للدفاع عنها، كأن إنقاذها صار معركته الوحيدة.
وبين جدران زنزانتها الانفرادية، جلست بسيل تواجه نفسها. كانت الساعات تتآكل من عمرها، والانتظار يلتهم صبرها، لكنها وقفت بين يدي الله، تستجديه غفرانًا ورحمة. طلبت قلمًا ودفترًا من تميم، وبدأت تكتب مذكراتها، وكأنها تعصر روحها في حروفها الأخيرة:
"من السهل أن تستسلم للشر وتعيش حياتك كلها والسم يملأ دمك، الحقد والكراهية يستعمرون قلبك، لكن من الصعب أن تعود إلى ربك... ومع ذلك، فالأمر ليس مستحيلًا. يجب عليك ان تجاهد نفسك الأمارة بالسوء، وتبدأ حياة جديدة تنقي فيها قلبك قبل فوات الأوان. اعلم أن طريق النجاة أوله خطوة تبدأها انت، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فالحياة أقصر من أن نقضيها في صراعات وانتقامات، نحن نستحق أن نحيا سعداء بقلوبٍ صافية... فهكذا تُخلق الحياة من رحم الموت.
هذه قصتي، وهذا آخر ما كتبته... اعترافًا بذنبي، لعل الله يغفر لي خطيئتي."
وبعد شهرٍ من القبض عليها، حكمت المحكمة بإعدامها شنقًا.
تلقت الحكم بابتسامة راضية، ونظرت إلى رحيل وتميم وسط قاعة المحكمة، حيث كانا يبكيان بحرقة. بعينيها أخبرتهما: "اطمئنوا... أخيرًا سأكفّر عن ذنوبي."
لكن قلب تميم لم يعرف يومًا طعم الرضا، ظلّ يتمرد كوحشٍ أسير يرفض القيود. اتخذ قراره الأخير وكأنه يسير إلى معركة فاصلة لا عودة منها. تقدّم بإجازة مفتوحة من عمله، وأعدّ خطة يائسة أشبه بسباق مع القدر لإنقاذها من مصيرها المحتوم.
في آخر زيارة له قبل تنفيذ الحكم، جلس أمامها للحظة طويلة يقرأ تفاصيل وجهها كأنه يودّعها، ثم دسّ في وريدها حقنة خبيئة توقف أجهزتها الحيوية مؤقتًا، لتبدو كأنها فارقت الحياة. دقائق مرت ثقيلة حتى أعلن طبيب السجن وفاتها، وخرج جثمانها بين يدي تميم ورحيل. لم يكن أحد يعلم أن بين أكفانها قلبًا ما زال ينبض بالحياة.
حررت بسيل توكيلًا لرحيل بإدارة شركتها، كأنها تودع كل ما تبقى لها من دنياها، تاركة السر معهما إلى أجلٍ لا يعلمه إلا ثلاثتهم.
سنوات مرت متثاقلة، حملها تميم على كتفيه، يعالج دمها المسموم وينقّيه نقطة بعد أخرى، حتى استطاع أن يردّ إليها الحياة من جديد. ومع مرور الأيام، تزوجها، وأنجبا ثلاثة أبناء كانوا ثمرة عشقٍ جارف قاوم المستحيل.
وبعد عشرين عامًا، عادت بسيل إلى وطنها، بعدما سقط الحكم بمضي الزمن. عادت امرأة أخرى، تحمل في قلبها يقينًا جديدًا، تعيش حياة هادئة كما تمنّت، خصوصًا بعد أن تأكدت من خلو دم أبنائها من سم أبيها الملعون. ومع ذلك، لم تنسَ يومًا أن الله أنقذها من حبل المشنقة، وأعطاها فرصة ثانية، لتولد من رحم الموت.
الكوبرا بقلمي✍️_______ لبنى دراز
تمت الحمدالله