الكوبرا
رواية الكوبرا بقلم لبنى دراز
الفصل السادس
🌹❤🌹❤🌹
ثمة وجوهٌ تبتسم كالملائكة، لكن خلف ابتسامتها تُخفي أفاعي عطشى للدم، وثمة قلوبٌ وُلدت بلا رحمة، لا ترى في الحب سوى فريسة سهلة للغدر.
والأشدّ إيلامًا.
حين تكتشف أنّ اليد التي أمسكت بك لتُنهضك، هي ذاتها التي دفعتك نحو الهاوية، وأن أقرب الناس إليك كان منذ البداية هو لعنتك الأبدية.
الكوبرا بقلمي✍️__________ لبنى دراز
في الجامعة
بعد مرور خمس سنوات، كبرت خلالها بسيل، قامت بإدارة شركة والدها وتمكنت من استكمال تعليمها والالتحاق بالجامعة. لكن مع كل عام يمر، كان تجبرها يزداد، وغرورها يتفاقم، وحقدها يتأجج كجمرٍ تحت الرماد. تعلمت كيف تستغل جمالها الفاتن للإيقاع بضحاياها، تلقي بالذنب على كل من تقتله، وكأنها تنتقم منهم عوضًا عن انتقامها من والدٍ أهمل علاجها وتركها فريسة لظلامها الداخلي.
في صباحٍ جديد، ذهبت بسيل إلى جامعتها. هناك، وكعادتها اليومية، التقت بصديقتها الأقرب "رحيل"، ملاذها الوحيد الذي تلجأ إليه لتتنفس من قدرٍ حاولت مرارًا أن تهرب منه ولم تستطع. حين وقعت عيناها على رحيل، ارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة، وقالت بنبرة دافئة:
"صباح الورد يا رحلتي."
ابتسمت رحيل، تلك الابتسامة التي تعشقها بسيل دومًا، وردّت بحب:
"أحلى صباح يا بسبوستي، وحشتيني من امبارح."
احتضنتها بسيل بعينين يفيض منهما الحب والامتنان، وهمست بسعادة صافية:
"وانتي كمان وحشتيني قوي يا رحلة."
قهقهت رحيل حتى بدت نواجذها، وقالت ممازحة:
"يا بنتي ارحميني! نستيني اسمي."
ضحكت بسيل، وأجابت باسترسال:
"اللاه! مش إنتي اللي اسمك أصلاً قابل للدلع؟ أعملك إيه بقى!"
أمسكت رحيل بيدها وجذبتها بخفة وهي تقول بسرعة:
" طب يلا ياختي، هنتأخر عن المحاضرة، والدكتور مش هيدخلنا لو اتأخرنا."
ركضت الفتاتان معًا، تتلاحق أنفاسهما وضحكاتهما، حتى تمكنتا من دخول قاعة المحاضرات قبل بدء المحاضرة بدقائق قليلة. جلستا بجانب بعضهما البعض، وما إن استقرتا في مكانهما حتى التفتت رحيل إليها وقالت بنبرة فضولية، يكسوها التردد:
"ممكن أسألك سؤال يا بسيل؟"
أجابت بسيل بابتسامة هادئة:
"أكيد طبعًا، اتفضلي."
خفضت رحيل صوتها قليلًا، وكأنها تخشى أن تجرحها، ثم استرسلت:
"أنا من زمان نفسي أسألك، هو إنتي ليه دايمًا لابسة الجوانتي والكمامة ومابتقلعيهومش خالص؟."
تفاجأت بسيل من سؤال صديقتها، جحظت عيناها للحظة، ثم حاولت أن تبتسم ابتسامة باهتة تخفي وراءها ارتباكًا ينهش صدرها. ماذا سأقول لكِ يا رحيل؟ إن عرفتِ حقيقتي ستهربين منّي، ستكرهينني كما أكره نفسي. عضّت على شفتها السفلى في قلق، وقبل أن تزداد نظرات رحيل اندهاش، انتبهت على صوتها وهي تعيد السؤال.
ارتبكت أنفاسها وأجابت بتعثر:
"انا مش قولتلك قبل كدا عندي مرض مناعي!! أه اتعالجت منه، بس ساب أثر، عشان كدا ماقدرش اقلعهم لأني ممكن اتعرض لأى عدوى تنهي حياتي بسبب نقص المناعة"
تأملت رحيل ملامحها المرهَقة، وابتسمت بحنان حقيقي، قائلة بصوت رقيق:
"ألف سلامة عليكي يا بيسا."
لكن بسيل لم تسمعها، كانت غارقة في دوامة أفكارها. ثوانٍ معدودة، ودلف الدكتور عماد إلى القاعة. عيناه لمعتا حين مرّ بنظره على رحيل، قبل أن يشرع في إلقاء محاضرته. الساعتان التاليتان انقضتا كعقوبة ثقيلة على صدر بسيل، عقلها مشغول بسؤال واحد: هل صدّقت رحيل روايتي؟ أم شكّت؟
انتهت المحاضرة، نهضت بسيل مسرعة وغادرت، تاركة رحيل وحدها. لكن عماد اعترض طريق الأخيرة بصوت خافت:
"رحيل ممكن أتكلم معاكي شوية؟"
ترددت رحيل لوهلة، ثم همست:
"ممكن."
اقترب منها، كأن خطواته تقوده إلى قدر محتوم. عينيه تمتلئان بعشق جارف، وقلبه يخفق باسمها كطبول حرب، ثم قال بانفعال حقيقي:
"أنا بحبك يا رحيل وعايز أعرف شعورك ناحيتي قبل ما أزور والدك وأطلبك منه."
ارتبكت أنفاسها، اشتعل وجهها بحمرة خجل، وغصّ صوتها وهي ترد:
"تقدر تزوره وأنت مطمن."
ثم هربت راكضة، كمن يخشى أن يفضحه قلبه. تركت عماد واقفًا مكانه، يبتسم كالممسوس، يحدث نفسه: قالت كن مطمئن… يعني إنها تحبني؟ تبادلني نفس الشعور؟ آه يا رحيلي، لقد رحلت في جمال عينيكِ، وغرقت في بحور عشقك، وأصبحتِ حالي وترحالي، خرج بعدها من القاعة بخطوات متراقصة، واتجه إلى مكتبه ليهاتف والدته ويخبرها أنه قرر أخيرًا أن يتزوج.
وفي كافيه الكلية، جلست رحيل أمام بسيل، تروي لها بلهفة تفاصيل اللحظة: كيف اعترف عماد، كيف شعرت بخفقات قلبها تتسابق مع كلماته، كيف أحاطتها السعادة كوشاح دافئ.
أما بسيل، فكانت كتمثال صامت، تتظاهر بالإنصات بينما نيران الغيرة تأكلها. كل كلمة تنطقها رحيل كانت كشوكة تُغرس في قلبها. لماذا هي؟ لماذا رحيل؟ اشتعل صدرها بالحقد، وامتلأت عيناها بظلام كثيف.
في لحظة خاطفة، تحولت مشاعرها من حبٍ لصديقتها إلى كره دفين. رأت فيها غريمتها لا ملاذها. كيف لها أن تُحَب بينما أنا الأجمل والأقوى؟ كيف لها أن تجد رجلاً يختارها، بينما أنا لا أستطيع حتى أن أُظهر وجهي الحقيقي للعالم؟
تذكرت بسيل ماضيها، والدماء التي لطخت يديها، تذكرت أباها الذي ساقها لهذا المصير. غلّت اللعنة على شفتيها: تلعنه وتلعن نفسها. الحقد غلب كل شيء، حتى صوت الصداقة الذي كان يهمس في أعماقها.
وبينما رحيل تضحك بعينين بريئتين، همست بسيل في سرّها:
"ليس ذنبك يا صديقتي، لكنه سيكون قدرك."
________________________
في بيت رحيل
بعد أيام قليلة، اتصلت رحيل بصديقتها بسيل، وألحت عليها أن تأتي لمرافقتها في يومٍ استثنائي، يوم ستُعلَن فيه خطبتها على الرجل الذي أسر قلبها منذ اللحظة الأولى في الجامعة. كانت الكلمات تخرج من فم رحيل كألحان فرح، بينما قلب بسيل يغلي كقدَر يغلي على نارٍ خفية. وافقت على الحضور، لكن نواياها كانت بعيدة كل البعد عن التهنئة.
وقفت أمام باب منزل رحيل، طرقت بخفة، وانتظرت. فتح الباب، وإذا برحيل تقف أمامها بوجهٍ مشرق كالقمر ليلة عرسه. شدّت بسيل على شفتيها لتصنع ابتسامة زائفة وقالت:
"عروستي الحلوة، مبروك يا قلبي."
ارتمت رحيل بين ذراعيها بحماس طفولي، تضحك وتردد:
"أحلى بسبوسة، عقبالك يا قلبي وتبقي أجمل عروسة."
كلماتها كانت كخناجر مغروسة في قلب بسيل. شعرت بنار تلتهم روحها من الداخل، نار تذكّرها بأنها ليست مثل الآخرين. كيف أعيش مثلهم؟ كيف أتنفس حياة طبيعية وأنا التي سُرقت براءتي على يد أبي؟ ذلك الأب الذي لم يكتفِ بمرضها، بل استغل ضعفها ليحوّلها من طفلة إلى أفعى سامّة.
زفرت بسيل ببرود قاتل وألقت كلماتها كحجر في ماء ساكن:
"أنا مش بفكر في الموضوع ده، وبعدين الجواز مشروع فاشل أصلًا."
ساد صمت ثقيل، قبل ان تلتفت والدة رحيل إليها باستغراب وتسألها:
"ليه يا بنتي؟ هتترهبني يعني؟"
رفعت بسيل كتفيها بلا اكتراث، وأجابت بلهجة متعالية:
"عادى، أنا كدا عايشة بحريتي، أرتبط ليه بواحد يتحكم فيا ويخنقنى، ده غير انى عايزة أكمل تعليمى وابنى نفسي ويبقى ليا كرير ومستقبل، من غير ما حد يعطلنى او يكره نجاحى، وقتها هبقى أحسن من مليون بنت اتجوزوا واتحبسوا فـ البيت."
نظرت الأم إليها باستغراب أشد، ثم قالت:
"بس برضو يا بيسا مسير كل بنت للجواز."
شردت بسيل للحظة، وداخلها صوت آخر يسخر: وهل من هي مثلي تُحب؟ هل من يُلطَّخ ماضيه بالدم يُعطى فرصة للحب والزواج؟
قطع شرودها صوت رحيل وهي تضحك بخفة وتقول:
"سيبك منها يا ماما، هى كدا تفكيرها غريب شوية."
ثم التفتت إلى بسيل وقالت بحماس، تحثها على الدخول إلى غرفتها:
"يلا يا بيسا، ندخل أوضتي نقعد براحتنا."
دخلت بسيل الغرفة خلفها، خطواتها ثقيلة كأنها تحمل جبالاً من الغل. بداخلها عاصفة هوجاء تعصف بلا رحمة، وأمواج متلاطمة تضرب قلبها بلا هوادة. ومع ذلك، رسمت ابتسامة ماكرة على شفتيها، وقالت:
"يلا يا عروسة، ماحدش هيجهزك ويظبطك غيري أنا."
قهقهت رحيل بفرحة لم تصدقها، وهتفت:
"بجد يا بسبوسة؟ إنتي اللي هتعمليلي الميك أب بنفسك؟"
ردت بسيل بخبثٍ كامن في نبرة ساخرة:
"أومااااال، لو ماعملتلكيش إنتي، هعمل لمين يا رحلتي؟"
مر النهار بطيئًا، حتى غربت الشمس وجاء المساء محمّلاً بزغاريد وبهجة. حضر عماد وعائلته، وقف شامخًا والسعادة تُضيء وجهه، يطلب يد من اختارها قلبه. تمت الخطبة وسط أغاني وأصوات النساء وهي تصفق وتزغرد قد اخترقت جدران البيت، بينما كان قلب بسيل يُشبه بركانًا يوشك أن ينفجر. جلست في زاوية صامتة، تبتسم بوجه وتلعن في سرها بوجه آخر.
حين علت أصوات الفرح، انسحبت بخطوات هادئة لم يلحظها أحد. خرجت من البيت وقلبها يغلي، كأن حمم البركان تبحث عن مخرج لتحرق كل ما حولها. عادت إلى منزلها والنار تعوي في صدرها، تخطط وتدبر كيف تنتقم من هذه الصديقة التي أشعلت نيران الغيرة بداخلها من حيث لا تدري.
_________________________
في فيلا سليمان النوري
وبعد أيّام من صراعٍ داخلي وتفكيرٍ مُرهق، عزمت بسيل أمرها. قصدت الرجل الذي اعتاد سليمان أن يقصده، ذاك الذي يسافر ويجلب له السُّم كأنه بضاعة عابرة. مدت يدها إلى هاتفها، وارتجفت أناملها وهي تضغط الأرقام، ثم ما لبثت أن تماسكت. جاء صوته في الطرف الآخر، فطلبت منه بلهجةٍ جافةٍ لا تعرف الرحمة:
"تعالالي عايزاك، ما تتأخرش"
أغلقت الهاتف بعنف، ثم جلست في حديقة الفيلا تتأرجح على مقعد خشبي، لكن قلبها لم يعرف للهدوء سبيلًا. كانت كالنار تحت الرماد، تترقب قدومه بشغفٍ أسود، شغف الانتقام الذي ينهش أحشاءها. كل دقيقة تمر تزيد غضبها اشتعالًا، كأنها جالسة فوق جمرٍ يحرقها من الداخل.
وأخيرًا، دخل الرفاعي بخطواتٍ متثاقلة وصوته الأجش يقطع الصمت قائلاً:
"تحت أمرك."
رفعت بسيل رأسها نحوه بحدة، كالنمرة التي تستعد للانقضاض، وانطلقت كلماتها كصفعةٍ قاسية:
"عايزة جرعة سم، تجيب من الآخر."
تجمد الرجل لحظة، يرمقها بعيونٍ متسائلة، ثم أردف ببطء وقد علت وجهه علامات الريبة:
"عايزاها ليه؟"
انفجرت حدقتاها ببريقٍ شيطاني، وارتجف فمها وهي تلفظ الكلمات من بين أسنانها كأنها تلدغ:
"ده مش شغلك! أنت تجيب اللي بقولك عليه وتاخد فلوسك وان ساكت ما تسألش."
تأملها الرفاعي مليًا، ثم اعتدل واقفًا، مسح يديه ببعضهما وهو يقول ببرودٍ متعمد:
"بس المرّة دي طلبك هيكلفك كتير قوي، قولتي ايه؟ موافقة؟"
تصلبت ملامحها، ارتجفت وجنتاها من شدة ما تحمله من غضب، وخرج صوتها كزئير مكتوم وهي تجزّ على أسنانها:
"من جنيه لمليون، المهم أخلص!"
ابتسم الرجل ابتسامةً صفراء، ثم طلب ان تمهله بعض الوقت، ليذهب إلى حيث بيت الأفاعي، ليعود بعد ساعتان، يحمل قوارير صغيرة يلمع سائلها القاتل تحت ضوء المصباح. مدّ يده بالسم، فانتزعتها منه بقبضةٍ مرتعشة من شدة انفعالها، ثم ألقت إليه رزمةً ثقيلة من المال دون أن تنظر إليه. لم تنتظر كلماته، بل أدارت ظهرها وغادرت الحديقة كالعاصفة.
في غرفتها، جلست في عتمة الليل، أفرغت السائل القاتل في حقنة وغرستها في جسدها كمن يوقع عقدًا مع الشيطان. غذّت أظافرها، وارتشفت منه كأنها تشرب جرعة حياةٍ جديدة، لكن حياة من نوع آخر، حياة تنبض بالحقد وحده. أحست بمرارة السائل تسري في عروقها كالنار، ومع كل قطرةٍ يزداد كرهها اشتعالًا.
__________________________
في المطعم
في اليوم التالي، ارتدت بسيل قناع البرود وتوجهت إلى جامعتها، أنهت محاضراتها كأنها جسدٌ بلا روح، لكنها في الداخل كانت تخبئ وحشًا لا يهدأ، ومع دقات المساء، أرسلت إلى عماد رسالة قصيرة، تطلب مقابلته في المطعم المجاور للجامعة، كلمات قليلة لكنها مثقلة بالنية السوداء.
وبعد إصرارٍ طويل منها، وافق عماد أخيرًا على مقابلتها.
دخل المطعم بخطواتٍ هادئة، يبحث عنها بين الطاولات، حتى وقعت عيناه عليها تجلس في ركنٍ بعيد، متأنقة أكثر من المعتاد. اقترب منها وهو يقول بنبرةٍ يغلب عليها الاستغراب:
"خير يا بسيل، أصريتي إني أقابلك هنا ليه؟"
رفعت بسيل رأسها نحوه بابتسامة ماكرة تخفي وراءها ألف نية، وردّت بخبثٍ لاذع:
"اتفضل ارتاح الأول يا دكتور، نشرب حاجة سوا ولا هنتكلم وإنت واقف كدا؟"
جلس عماد على المقعد المقابل، وضع مفاتيحه وهاتفه على الطاولة في حركة عفوية منه، ثم تنهد قائلاً:
"أهو قعدت، خير بقى في إيه؟
انحنت للأمام قليلًا، بصوتٍ متصنّع يقطر كذبًا، كأنها تخشى على صديقتها، وقالت بعد أن طلبت مشروبين:
"أنا بس كنت عايزة أتكلم معاك بخصوص رحيل."
انعقد حاجباه بدهشة وهو يسأل:
"مالها رحيل؟"
ابتسمت ابتسامةً خبيثة، وفي قلبها غليان لا يهدأ، ثم أردفت كالأفعى التي تلمّع أنيابها قبل اللدغ:
"عايزة أوصيك عليها، حضرتك عارف إنها صديقتي الوحيدة، وعايزة أطمن إنها مع إنسان بيحبها بجد."
ردّ عماد بصدق، كلماته خرجت من قلبه كقسمٍ لا رجعة فيه:
"اطمني يا بسيل، رحيل جوّه عيني وجوّه قلبي."
كلماته كانت كالسكاكين تمزّق قلب بسيل، شعرت بحرارة الغيرة تشتعل في صدرها حتى كادت تخنقها، أخفت عاصفتها بابتسامة زائفة، وفي لحظةٍ سريعة أسقطت مفاتيحه عن عمد من فوق الطاولة.
انحنى عماد لالتقاطها، وفي ثوانٍ خاطفة، نزعت كمامتها لتنفث السم في فنجان القهوة، ثم نزعت قفازها بخفةٍ محسوبة وانحنت تتعمد مناولته المفاتيح، لتخدشه بأظافرها المسمومة، كأنها توقّع على موته.
اعتدل عماد في جلسته وأمسك بفنجان القهوة يرتشف منه القليل، ولم تمر دقائق بعد انتهائه، حتى ارتعش جسده فجأة، ارتبكت أنفاسه، واسودّت ملامحه أمام ذهول الحاضرين، تمايل على الكرسي، ثم هوى على الأرض كجثةٍ باردة، بينما السم ينهش أحشاءه بلا رحمة.
صرخت بسيل بصوتٍ يقطر تمثيلًا وبكاءً زائفًا:
"الحقوني! عماااااااااد، دكتور بسررررعة"
ثم انحنت فوقه تتظاهر بالجزع، دموعها تسيل على وجنتيها كدموع التماسيح، وصاحت مهددة صاحب المطعم:
"انا هخرب بيوتكم، هقفل لكم المطعم ده، ومش هخليكم تشتغلوا تاني خاااالص، عماد كان داخل ماشي ع رجله، أكيد القهوة بتاعتكم دي فيها حاجة"
جاءت الشرطة على الفور، أُجري التحقيق، وتبين من تقرير الطب الشرعي أن الوفاة سببها سم أفعى قاتل، رحل عماد، وانطوت صفحة حبه لرحيل بلمح البصر.
أما بسيل، فعادت إلى منزلها متثاقلة الخطى، لكنها تحمل قلبًا خفيفًا كأنها تخلصت من عبءٍ جثم فوقها، وفي اليوم التالي، ارتدت ثوب الحزن وتوجهت إلى صديقتها، احتضنتها بقوة، واغرقت وجهها بدموعٍ مصطنعة، تواسيها بكلماتٍ تقطر كذبًا، حتى صدّق الجميع أنها أبعد ما تكون عن يدٍ ملطخة بالدم.
__________________________
في مصلحة الطب الشرعي
جلس تميم في مكتبه بعد الانتهاء من تشريح جسد عماد، والوجوم يكسو ملامحه، الأوراق مبعثرة أمامه، وصور التشريح ما زالت عالقة في عينيه، فيما عقله يسبح في بحر من الأسئلة: "تلك الأفعى التي تتجول ولا يراها أحد، أهي حقيقية فعلاً؟ أم أن هناك من يختبئ في الظلال، يستغل سُمها كخنجرٍ مسموم يطعن به ضحاياه؟"
ضغط أصابعه على جبينه، كأنما يحاول انتزاع خيطٍ واحد من متاهة أفكاره، لكن شروده انقطع على صوت طرقٍ خفيف على الباب، تلاه دخول أحد الممرضين:
"دكتور تميم، واحد اسمه أرغد الميسري بره، بيقول عايز يقابلك"
رفع تميم عينيه عن الأوراق المبعثرة فوق المكتب، وملامحه متجهمة من شدة الإرهاق. قطّب حاجبيه في انفعال وهو يزمجر بصوتٍ نافذ:
ـ وسايبه واقف كل ده؟! دخّله بسرعة.
ارتبك الممرض وأومأ برأسه مسرعًا نحو الباب، وما إن انفتح حتى تبعه خروجًا، ليُفسح الطريق أمام دخول أرغد، الذي خطا بخطوات واثقة إلى الداخل، تتبعه نظرة ترحيب مشوبة بالقلق من تميم.
الذي اعتدل في جلسته، ثم نهض بترحاب:
"أرغد باشا، نورت المكتب والطب الشرعي كله، أي ريح طيبة جابتك عندي؟"
ابتسم أرغد ابتسامة جانبية وهو يخطو للداخل، يراقب صديقه بعينٍ فاحصة:
"أبداً، قلت أعدّي أطمن عليك، واشوفك وصلت لغاية فين في موضوع الأفعى؟ لسة بتدور وراها ولا يأست؟
أطلق تميم تنهيدة طويلة، وبدت الحيرة على وجهه:
"والله مش عارف أوصل لحاجة، حاسس إن دماغي هتنفجر من كتر التفكير"
جلس أرغد في المقعد المقابل، متكئًا بذراعه على الطاولة:
"ماعرفتش أي معلومة توصلك ليها؟
انحنى تميم قليلًا للأمام، يتحدث بنبرة جدية:
"كل اللي عرفته من التشريح إن السم ده هو خليط من سموم الكوبرا الملكية من الهند واستراليا، ودي أخطر أنواع الأفاعي، بس لحد دلوقتي مش قادر أحسم، إحنا قدام أفعى حقيقية فعلًا؟ ولا في حد بيستغل السم ده كأداة للقتل؟
أطرق أرغد لحظة، ثم رفع رأسه وفي عينيه بريق فكرة:
"طب ما تروح المطعم اللي حصلت فيه الحادثة وتراجع الكاميرات، أكيد هتلاقي حاجة".
انتفض تميم من مكانه وكأن شرارة أُضيئت فجأة في عقله:
"إزاي غابت عني؟! عندك حق يا أرغد، يمكن ده أول الخيط".
قام من مجلسه بسرعة وهو يشير بيده لصديقه بحماس:
"يلا قوم معايا دلوقتي".
نهض أرغد معه متسائلًا وهو يرافقه عبر الممر الطويل:
"بس قولي يا تميم، إيه اللي مخليك مصمم تحقق في الموضوع ده؟ ما هو خلاص اتقفل رسمي".
أطلق تميم ضحكة ساخرة، وعيناه تحملان سخرية ممزوجة بالغضب:
"يا ابني، المفروض انت اللي تعمل كدا مش أنا، أنا مش فاهم انت بقيت ظابط ازاى"
ضحك أرغد هو الآخر، لكن ضحكته بدت مريرة وهو يرد:
"يا ابنى من وقت ما اتخرجت واشتغلت فـ المباحث مابعملش حاجة غير أنى أدور ع الأفعى بقيت حاسس انى عامل زى الرفاعى اللى بيحضّرها وياريتها بتحضر".
توقف تميم لحظة، شد قبضته، وصوته يقطر إصرارًا لا يقبل التراجع:
"أنا بقى مش هسيبها، هافضل وراها لحد ما أوصل لها، وأكشف سرها الغامض ده".
تلاقى نظرهما في صمت، نظرة جمعت بين العزم والقلق، قبل أن يرد أرغد بعينين مشتعلة بالإصرار:
"وأنا معاك، إيدي في إيدك لحد ما نلاقيها ونكشف أمرها"
وبالفعل توجها معًا إلى المطعم الذي قُتل فيه عماد، دخلا بخطوات محسوبة، يتبادلان نظرات حذرة، وكأن كل ركنٍ من المكان يخبّئ سرًّا غامضًا، كانا يتجولان بعيون ثاقبة، يمسحان الأرضية والجدران والزوايا بعنايةٍ لا تغفل عن أدق التفاصيل، بحثًا عن ممرٍّ أو منفذٍ قد تدخل منه الأفعى المجهولة، لكن المكان بدا محكمًا، لا يشي بوجود أي شيء غريب.
اقتربا من صاحب المطعم، فبادرهما بلهجة واثقة:
"يافندم احنا بنحافظ دايما ع نضافة المكان، وباستمرار في لجان تفتيش بتيجي من الصحة يتابعوا معانا"
لكن ما أثار انتباههما هو حين سألاه عن الكاميرات وقت الحادث، فاصطحبهما إلى غرفة مكتبه، جلس خلف المكتب فتح جهاز اللاب توب، وانعكس ضوء الشاشة الباهت على وجوههم، ضغط بيده المرتعشة على الأزرار، لتبدأ التسجيلات في العرض.
ظل تميم وأرغد يراقبان الشاشة بتركيزٍ حاد، يتابعان كل حركة في المكان، بدا كل شيء هادئًا وطبيعيًا إلى أن توقفت أعينهما فجأة، وكأن قلبهما دق في اللحظة نفسها، هناك بجوار القتيل، فتاة ترتدي قفازين وكمامة، تصرخ بطريقة غريبة ثم تهرع لتبلغ عن الحادث، تبادلا النظرات في صمتٍ مثقل، وذكريات قديمة انبعثت من بين غبار السنين.
همس تميم، وصوته يقطعه الذهول:
"مش هي دي نفس البنت اللي شوفناها فـ حادثة المول من خمس سنين؟
أجابه أرغد وهو يحدّق في الشاشة بعينين متسعتين:
"أيوة هى! نفس العيون، ونفس الجوانتي والكمامة"
كان الأمر كالصاعقة، قررا أن يغوصا أعمق وأن يفتشا في كل الملفات القديمة وبالفعل، غاصا في بحرٍ من القضايا المجهولة، ليجدا سلسلة طويلة من الجرائم الغامضة كلها ضد الأفعى المجهولة، لكن رغم محاولاتهما المضنية، ورغم تصادف وجود بسيل في مسرح كل جريمة، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لإدانتها؛ حضورها بدا أشبه بظلٍّ يطارد الضحايا ثم يتلاشى، دون أن يترك وراءه سوى الشكوك، وكأن القدر نفسه يحميها من انكشاف حقيقتها.
استمر بحث تميم وأرغد لثلاث سنوات كاملة، يطاردان سرًا يتسلل بين أصابعهما كالدخان، لم يعرف أحد بجهودهما، وكأنهما يخوضان حربًا ضد شبح.
حتى جاء اليوم الذي قادهما فيه القدر إلى طبيب مسنّ، يعمل في مشفى مدينة تابعة لقطاع ريفي منذ زمن بعيد، جلس الرجل أمامهما ملامحه غارقة في تجاعيد السنين، وصوته يخرج ببطء، كمن يحمل سرًا ثقيلًا:
"من 16 سنة جات لي بنت مصابة بلدغة تعبان، الغريب إنها ما اتأثرتش باللدغة، عملت لها تحاليل، واكتشفت إن دمها قابل سم الأفعى، يعني تقدر تعيش وتتغذى عليه"
ابتلع الطبيب ريقه وأكمل، وعيناه تغوصان في الماضي:
"حذرت أبوها ساعتها، قلت له لازم تنقي دمها وإلا هتتحول لخطر ع أي إنسان يقرب منها، وموتُه هيكون محتوم حتى لو مجرد خدش بسيط بدون قصد".
سرت قشعريرة في جسدي تميم وأرغد، وتجمّد الدم في عروقهما للحظة، تبادلا النظرات والوجوه شاحبة، والصدمة تسري في أعماقهم فجأةً، تذكّرا شيئًا، كل الضحايا بلا استثناء، كان في أيديهم جرح صغير بالكاد يُرى.
رفع تميم بصره إلى صديقه، صوته خرج مبحوحًا:
"يعني البنت دي هي نفسها الكوبرا اللى بندّور عليها".
ضغط أرغد على يده بقوة، وعيناه تتسعان كمن يواجه كابوسًا يتجسد:
" تخيل! بس، هنلاقيها إزاي؟"
وفجأة خيّم صمت ثقيل على الغرفة، كأن جدرانها ضاقت عليهم. شعر الاثنان بأن الهواء صار أثقل، والبرد تسلل إلى عظامهما رغم حرارة المكان، للحظةٍ عابرة، بدا لهما أن ظلًّا طويلًا لزحف أفعى انزلق على الأرضية الباهتة، لكنه تلاشى قبل أن يلتفتا تمامًا، تبادلا نظراتٍ مرتجفة، والرهبة تتسلل إلى أعماق قلبيهما كأن السر نفسه بدأ يراقبهما.
عاد تميم وأرغد إلى القاهرة مثقلين بالشكوك، تتنازع في صدريهما مشاعر متناقضة بين يقين الاكتشاف وضبابية الطريق، كانا قد توصلا أخيرًا إلى أن بسيل ليست سوى الكوبرا القاتلة، صاحبة كل الجرائم التي حيّرتهم لسنوات طويلة، لكن هذا اليقين لم يمنحهما الراحة التي تمنياها، بل أشعل في داخلهما نارًا جديدة من الحيرة.
في صمت السيارة، تبادلا النظرات دون كلمات، فكلٌّ منهما يدرك ما يجول في خاطر الآخر؛ إنهم أمام قاتلة بارعة، لا تترك أثرًا خلفها، لا تعود أبدًا إلى مسرح جريمتها، ولا تحوم حول ضحاياها بعد أن تقضي عليهم، تظهر مرة واحدة كوميضٍ خاطف، ثم تنمحي من المشهد كأنها لم تكن.
أرغد شدّ على قبضته بقوة، حتى كادت عروقه أن تنفجر، ثم ضرب المقود بيده بعنف، فارتجّت عجلة القيادة تحت أنامله، وخرج صوته متحشرجًا مبحوحًا بالغضب:
"يعني بعد السنين دي كلها، رجعنا تاني لنقطة الصفر؟!"
أطرق تميم رأسه، كتفاه منحنية كأن ثقل العالم انكبّ عليهما، وملامحه مرسومة بالإعياء والهمّ، خرج صوته منخفضًا، متقطعًا ببطءٍ متعب:
"حاسس زي ما نكون بنطارد شبح، عرفنا شكلها، بس لا قادرين نعرف هي مين ولا نمسكها إزاي."
أطلق تنهيدة ثقيلة خرجت من أعماق صدره، وعيناه معلّقتان بالطريق أمامه كأنهما تبحثان في الأفق عن إجابة غائبة:
"وهو ده اللي هيجنني يا أخي، بقالنا سنين بندوّر وراها، وحتى بعد ما بقينا متأكدين إنها المجرمة، برضو مش عارفين نمسكها."
على غير عادته، ارتسمت على وجه أرغد ابتسامة خفيفة، مشوبة بعجزٍ مرير، وقال وهو يحاول تخفيف وطأة الموقف:
"بقولك إيه يا عم انت، اهدى بقى خليني أفوق لخطوبتي، وأهو ناخد نفسنا شوية وبعدين نرجع نكمل، اما نشوف أخرتها مع الكوبرا البشرية اللي محيّرانا دي."
التفت تميم إليه فجأة، حاجباه مرفوعان، وابتسامة ساخرة تكسو ملامحه:
"ما كنت بعقلك، إيه اللي غير رأيك فجأة كدا؟"
ارتسمت على وجه أرغد ابتسامة عريضة، وأجاب وهو يشيح بيده بلا حيلة:
"أبويا وأمي يا سيدي اتفقوا عليا، قرروا يخطبولي بنت صاحب بابا، وكلموا الناس وحددوا المعاد كمان يومين."
انفجر تميم ضاحكًا بصوتٍ عالٍ، ارتجّت السيارة من شدته، ثم أشار لصديقه متهكمًا:
"يا عيني يا ابني، ما كانش يومك يا ضنايا! هو لسة في حد بيتجوز بالطريقة دي؟!"
ابتسم أرغد ابتسامة نصف جدية ونصف مستسلمة، ثم غمز صديقه بخبث:
"آه يا أخويا أنا، واعمل حسابك إنك جاي معايا، ياكش تلاقي واحدة تلمّك إنت كمان ونخلص منك."
ضحك تميم مجددًا وهو يلوّح بيده كمن يدفع كلامه بعيدًا:
"أنا أكيد راشق معاك، عشان أتفرج عليك وإنت بتتدبس، بس أنا ثابت ع موقفي ومش ناوي أرتكب الجريمة دي فـ حق نفسي، أنا مرتاح وحلو أوي كدا."
ساد بينهما صمت قصير، لم يقطعه سوى هدير السيارة وأنفاسهما الثقيلة. أمامهما، كانت القاهرة تمتد بضجيجها وضوئها المتوهج، كأنها مدينة لا تعبأ بآلام ساكنيها، تسخر من عجزهما في مطاردة ظلٍ بشري قاتل، ومع ذلك، في أعماق كلٍّ منهما بقي ذلك البريق الخفي من الإصرار، وعدٌ غير منطوق بأنهما لن يتوقفا، حتى لو كان الطريق يقود مباشرة إلى قلب الظلام لمواجهة الأفعى البشرية.
الكوبرا بقلمي✍️________ لبنى دراز
يتبــــع