الكوبرا
رواية الكوبرا بقلم لبنى دراز
الفصل الاول
🌾❤🌾❤🌾
أحيانًا لا نختار الطرق التي نسلكها، بل تختارنا هي، تلوّح لنا من بعيد كنداءٍ مألوف، كأنها تعرفنا منذ أول سقوط لنا. نمشي فيها بخطى مرتجفة، نجرُّ خيباتنا خلفنا كظلٍّ ثقيل، نبتسم، ونكذب على أرواحنا. لكن الحقيقة؟ أن في أعماقنا صرخة، لم تجد أذنًا تُنصت، ولا حضنًا يُطمئن، فقط نكمل، لأن التراجع موت آخر، والمضيّ موتٌ أبطأ.
🌾❤🌾❤🌾
لم تكن إنسانة عادية، بل هي اللعنة نفسها تمشي على قدمين، تتنفّس، تتكلم، وتتسلل في هيئة فتاة.
جمالها لا يُغوي بل يُنذر، من يحدّق طويلًا في عينيها لا يرى سواهما، ثم لا يرى شيئًا بعدها،
أنفاسها وحدها تُربك الهواء، من يلمسها يختنق بصمته قبل ان يستغيث، أما من يقترب من وكرها، فليحجز لنفسه قبراً، فجرحٌ صغير منها قادر أن يسكب الموت في عروق من لمسها في دقائق.
لا تعرف الضعف، ليس لأنها قوية بل لأنها خُلقت كندٍّ لكل ضعيف.
لم تختر هذا المصير، لم ترجُه، ولم تفرّ منه، الحياة لم تمنحها فرصة بل حمّلتها لعنتها وراحت تراقب من بعيد.
تحمل في دمائها سُمًّا لا علاج له، وفي عروقها تاريخ لا يعرفه أحد، وفي قلبها حكاية مغلقة، يتهامسها القدر ولا يجرؤ أن يبوح بها.
فهل تكون الضحية؟ أم الجلاد؟
اسمها وحده يحمل قدرها.
لا عشوائية فيه، لا صدفة، لا رحمة، دمائها تروي حكاية نجاة من موتٍ قاتل لكنها نجاة مسمومة، ليست معجزة بل لعنة مغلفة بالحياة، وكأن الحياة أعادتها لا لتُشفى، بل لتُحرق كل من اقترب منها، كل من ظن أنه قادر على فهمها، على ترويضها، على حبّها.
لا تُؤذي أحدًا عبثًا، لكن من يمدّ يده إلى عالمها، من يحاول كسر سكونها، من يظنّ أن ودها ضعف، يرى وجهها الآخر.
ذاك الذي لا يتراجع، لا يرحم، ولا يترك خلفه إلا رمادًا يتطاير.
فهي كالأفعى.
تراقب، تتراجع، تزحف ببطء لكن حين تُقرر أن تلدغ، لا تُخطئ، وليست بحاجة إلى التكرار، فلدغتها الأولى هي الأخيرة، غضبها لا يُرى لكنه يلتف حولك، يضغط، يخنق، يُنهي.
قوتها في صمتها، وخوفها فيمن يستهين بها، ابتسامتها خادعة وهدوئها هو بداية العاصفة. تلتفّ حول خصمها كما يلتف الموت، تضمه إليّها حتى تُزهق روحه بين يديها، لا تتردد، تثق بخطواتها الى أبعد الحدود، تفعل ما تشاء، متى تشاء، وكيفما تشاء، فلا تختبرها،
لا تحاول قياس حجم نيرانها، ولا تظن للحظة أنك ستنجو.. فالذين واجهوها من قبل، لم يبقَ منهم أحد ليحكي.
الكوبرا بقلمي✍️________لبنى دراز
في إحدى أمسيات الصيف الناعسة، كان الضوء يتسلل من الشمس المحتضرة بخجل،
تغرق ببطء خلف التلال تاركةً السماء تتدرج بألوان البرتقالي، فيما اكتسى الأفق بحمرةٍ ناعمة، كأنما نزف دفءَ النهار، استقل سليمان وصغيرته بسيل القطار من القاهرة عائدَين الى بلدته الصغيرة في زيارة قصيرة بعد وفاة زوجته ليستريح من عناء الوحدة، لعلّه يجد من اصدقائه القدامى من يخرجه من حزنه وينسي هذه الطفلة لحظات الألم التي عاشتها عند فقدان والدتها وهى في هذه السن المبكرة، وصل القطار بعد ساعات طويلة الى البلدة، ترجّل منه سليمان وابنته متجهًا الى بيت والده المغلق منذ أعوام، والذي يقع في قلب قرية نائية من قرى الريف الأصيل على بُعد ساعتين من المدينة، حيث بدت المنازل الطينية المتفرقة كأنها نُثرت فوق الأرض عن قصد، تحفّها الحقول من كل جانب، خضراء وهادئة تمتدّ كأمواج ساكنة من زرعٍ ناعم، يوشك أن يهمس لمن يمرّ من هذا الطريق بنغمات الطبيعة الخلابة.
الهواء يتحرك ببطء، نسيمٌ خفيف يداعب أطراف الزروع، كأن الريح تمشي على مهلٍ حتى لا تُفسد الهدوء، فلا يُسمع سوى زقزقة طائرٍ ضلّ طريقه، أو همسات أوراق الذرة وهي تتمايل برقة في انتظار الليل،
وفي الخلفية، يتردد نداء المؤذن من مئذنة بعيدة، صوته يتلاشى وسط السكون، كأنما يهمس للطبيعة بأن الضيف المنتظر قادم.
فتح سليمان باب المنزل ودخله بخطًى واثقة ليقضي إجازته، ثم يعود مرة أخرى إلى القاهرة، حيث عمله وشركته، وفي ذات مساٍء، وفي هذا الجو الساحر خرجت بسيل لتلعب مع أطفال القرية، يركضون بين الحقول تتعالى ضحكاتهم وتلاحقهم نسمات الهواء العليل، يطاردون أحلامهم فوق الأرض الخضراء، فهى كانت طفلةً في عمر الزهور، من يراها لا يملك إلا أن يُفتن بجمالها الغريب؛ بشرتها بيضاء كقمر الشتاء، وشعرها الغجري شديد السواد كليلةٍ بلا قمر، تتدلّى خصلاته بانسياب على كتفيها كستارٍ يُخفي خلفه حكاية رائعة الجمال، أما عيناها ففيروزيتان واسعتان كعيون المها تحملان براءة آسرة وصفاءً يشي بما هو أعمق، يُقسم من يراها أنها لوحةٌ نُسجت بأنامل فنانٍ عتيق، أودع فيها كل ما في قلبه من شغفٍ وغموض،
لكن، حين مالت الشمس نحو المغيب، وتسللت خيوط الليل الأولى بهدوءٍ قاتم، قرر الأطفال العودة إلى منازلهم، كان الطريق بين الحقول موحشًا ومظلمًا، والهواء قد تغيّر، سكن فجأة، كأن الطبيعة نفسها احتبست أنفاسها ثم انبعث صوتٌ غريب، يشبه فحيح أفعى، ممدودًا كأنه ينبثق من جوف الأرض، تجمّد الدم في عروق الأطفال لم يفكروا ولم يلتفتوا خلفهم، بل ركضوا بكل ما أوتوا من رعب،
ركضوا حتى لم يلحظ أحدٌ منهم أن بسيل لم تكن تركض معهم.
وعندما قابلهم سليمان والد بسيل وهم يركضون سألهم عن سبب ركضهم: مالكم يا ولاد؟ بتجروا كدا ليه؟.
أجابه أحد الأطفال وهو يلهث من شدّة الركض: سمعنا صوت زَيّ صوت التعبان يا عمو، وخوفنا منه أوي، وطلعنا كلنا نِجري.
حدّق سليمان في وجوههم الصغيرة بعينين قلقتين، يبحث بينهم عن ملامح ابنته لكن عينيه لم تقع عليها، تسارع نبضه وارتفع صوته وهو يعاود السؤال وقد بدأ القلق يتسلل إلى أعماقه: فين بسيل؟ مش معاكم ليه؟
ردّ عليه طفل آخر، وملامحه مشوشة: مش عارفين يا عمو، هي كانت بتجري معانا، وفجأة اختفت.
تجمّد سليمان في مكانه للحظة، قبل أن يندفع كمن لدغه الخوف
خفق قلبه بجنون، كأن الطبول تُقرع في صدره، ركض في كل اتجاه، ينادي اسمها بصوت مبحوح تتلاحق أنفاسه، وتترنح قدماه فوق الأرض الزراعية،
التفت هنا وهناك، بعينين مذعورتين، يبحث في الحقول، بين الزرع، خلف الأشجار حتى وقعت عيناه عليها، ليراها ملقاة في منتصف الطريق، جسدها الصغير ساكن ووجهها شاحب،
صرخ باسمها وهو يهرول إليها، جثى إلى جوارها، وذراعاه ترتجفان، رفعها بين يديه يحتضنها بقلبٍ مذعور ودموعه تنهمر على وجهها البارد، ناداها مرارًا وهزّها برفق يحاول إفاقتها، لكن دون جدوى كانت ساكنة، كأن الحياة انسحبت منها بصمت تاركة برودًا غريبًا يتسلل إلى أطرافها، لم يتردد لحظة، ضمّها إلى صدره ورفعها بين ذراعيه، وانطلق يركض فوق الطريق الترابي يتعثر أحيانًا ويستقيم أحيانًا، مدفوعًا برعبٍ لا يعرف له اسمًا، وجهه غارق في العرق والدموع، وعيناه لا تغادران ملامحها المطفأة كأنه يخشى أن تفلت من بين يديه كما فلت النور من عينيها، كل خطوة كان يخطوها كأنها صراع بين الأمل والانهيار، بين الإيمان والخوف، كان الزمن يمضي ببطء مؤلم، والهواء من حوله أثقل من أن يُستنشق، ركض مسرعًا وقلبه ينبض برجاءٍ واحد، وهو أن يصل في الوقت المناسب الى الوحدة الصحية، كان يبحث عن طوق نجاة، عن يدٍ تطمئنه، عن تفسيرٍ يخرجه من ظلام المجهول.
قابله الطبيب عند باب الوحدة ووجهه يحمل ابتسامة خفيفة وملامحه توحي بشيءٍ من الاطمئنان، كأنما أراد طمأنته دون كلمات، ثم تطلع إلى بسيل بين ذراعيه وسأله بقلق: مالها؟ حصل لها إيه؟
لم يرى سليمان شيئًا سوى ابنته بين ذراعيه، مغمضة العينين كأنها تغفو في حضن الموت، وجسدها لا يتحرك إلا مع اهتزاز خطواته اللاهثة، عيناه كانت معلّقتين بوجهها، يقرأ على ملامحها كل الذكريات والضحكات والخوف والرجاء، وصوته الداخلي لا يكف عن الرجاء، كأن روحه بأكملها قد عُلقت بها، تمدّد الزمن من حوله، وكل شيء بدا ساكنًا إلا خفقان قلبه المتسارع، وذراعيه اللتين تحتضنانها بقوة وكأنهما لن تسمحا للموت بأن ينتزعها منه، فخرج صوته مرتعشًا، متقطعًا، وجسده يرتجف كما لو أن البرد تسلل إلى عظامه: مش عارف، كانت بتلعب مع العيال فـ الغيطان ولما اتأخرت خرجت أدور عليها لحد ما لاقيتها واقعة وغايبة عن الوعى، حاولت أفوقها ما عرفتش جبتها وجيت جري ع هنا.
أخذها الطبيب من ذراعه بسرعة، وضعها على السرير، وبدأ يفحصها بدقة، يداه تتحركان بخبرة وعيناه تتنقلان بين مواضع النبض والعينين والجلد، يبحث عن خيطٍ يكشف له ما الذي أصابها فجأة، وبعد لحظات بدت أثقل من الزمن نفسه، التفت إلى الأب وأجابه بوجهٍ جاد وصوتٍ حازم: بنتك لدغتها أفعى ولازم بسرعة تجرى بيها ع مستشفى فيها إمكانيات أعلى، عشان الوحدة هنا مافيهاش التجهيزات اللي ممكن تنقذها.
ارتجف قلب سليمان وتجمدت الدماء في عروقه، الكلمات ضربت أذنه كأنها طلقات رصاص، وعقله بدأ يرفض التصديق، شحب وجهه واتسعت عيناه، وغصّ صوته بالدموع وهو يتمتم، يحاول أن يربط بين ما سمعه وبين ما يراه: قصدك إن بسيل كدا خلاص بتموت؟! يعني بنتي هتروح منّي؟
رفع الطبيب عينيه إليه هذه المرة وكانت نبرة صوته حاسمة لا تحتمل التأجيل: لازم تطلع بيها دلوقتي حالًا ع مستشفى المدينة، هناك هيقدروا يلحقوها لو اتحركت بسرعة ووصلت فـ الوقت المناسب.
خرج سليمان كمن انتُزع قلبه من صدره، يحمل صغيرته بين ذراعيه كمن يحمل روحه ذاتها، يضغطها إلى صدره بقوة كأنه يخشى أن تنسل من بين أصابعه وتضيع إلى الأبد، كانت خطواته متسارعة، متعثّرة، وأنفاسه تتلاحق في صدره المثقل، لا يدري أكانت الأرض تتحرك من تحته أم أن الوقت هو من يتآمر عليه.
عيناه تحدقان في الطريق بلهفة يائسة، يلهج لسانه بالدعاء: "يارب ابعتلي حد ينجدني، ساعدني وما تضيعهاش مني."
وما هي إلا لحظات حتى لمحت عيناه ضوء سيارة يقترب، فتشبّث بالأمل كالغريق، وأشار للسائق بجنون، والدمع يعمي بصره.
أوقف الرجل سيارته وهو يرمقه بدهشة ممزوجة بالشفقة، فاندفع إليه سليمان بصوت مبحوح ودموعه تغالب كلماته:
بنتي بتموت مني، بالله عليك، وصلني المستشفى.
تبدلت ملامح السائق في لحظة وقد ارتسم الذهول على وجهه عند رؤيته منظر الطفلة بين يديه، وأومأ بسرعة: أه، أه، اتفضل، ربنا يطمنك عليها.
صعد سليمان وهو يضم جسد بسيل إليه كأنها هشّة من زجاج، والقلق ينهش قلبه كما تنهش النار الورق الجاف.
كانت السيارة تندفع في الطريق، لكنه كان يشعر أنها تسير على جمر، كل ثانية تمر تجرح روحه، وكل التفاتة إلى وجه طفلته الشاحب تزيده ضعفًا وألمًا.
همس في سره مرارًا: " يا رب أنا ماليش غيرها، دي آخر ما اتبقّى لي من الدنيا."
وما إن وصلت السيارة إلى المشفى حتى اندفع سليمان كالسهم، فتح الباب دون أن ينتظر، وركض ببسيل في حضنه، صوته يعلو في أرجاء الاستقبال، ممزقًا الصمت الحذر: دكتوووور، عايز دكتور يا ناس بنتي بتروح مني، حد يلحقني.
توافد الموظفون والممرضون، واقترب منه طبيب بسرعة والقلق بادٍ على وجهه:
خير؟ حصل ايه؟ بنتك مالها؟
صرخ سليمان ودموعه تنهمر بلا حياء:
بنتي لدغتها أفعى، ومغمى عليها بقالها مدة ومش بتفوق، بالله عليك إلحقّها.
مرّر الطبيب نظراته بين ملامح الأب المذعور ووجه بسيل الشاحب، ثم أشار إليه بالدخول إلى غرفة الفحص، دلف سليمان بخطوات متوترة تتنقل عيناه بين الأجهزة والطبيب وابنته المسجّاة، ثم جلس مذهولًا على الكرسي القريب من المكتب، يراقب الطبيب الذي بدأ يفحصها بدقة شديدة.
جبين الطبيب كان يلمع بالعرق، وعيناه يكسوهما الارتباك، قبل أن تتبدل ملامحه فجأة بلمحة ذهول حاد، كأن فكرة غريبة بدأت تتسلل إلى ذهنه، فأجرى بضعة فحوصات سريعة، بينما تتحرك يداه بقلق ملحوظ، والريبة تزحف إلى قلبه شيئًا فشيئًا، مرت الدقائق كأنها دهر، قبل أن يتنهد فجأة ويقول بوجه ممتقع ونبرة لا تخلو من الصدمة: أنا أول مرة أشوف حالة زي كدا!
انكفأ سليمان عليه كمن يستجديه الرحمة: طمني يا دكتور بنتي مالها؟ جرالها إيه؟ مش بتفوق ليه؟ اوعى تكون ماتت؟ أرجوك قولّي بنتي فيها إيه؟
نظر إليه الطبيب بعينين تحملان الحيرة والشفقة، تردد لحظة ثم قال بصوت هادئ يشوبه الأسى: أنا مش عارف الكلام ده هيطمنك ولا هيقلقك، بس بنتك كويسة ومش كويسة في نفس الوقت.
اتسعت عينا سليمان بعدم فهم، وصوته خرج متحشرجًا: يعني إيه؟ مش فاهم! يعني بنتي كويسة ولا لا؟
اقترب الطبيب منه بعد أن أفاق بسيل بهدوء، وأوضح له الأمر بصوت مندهش: بنتك فصيلة دمها نادرة جدًا، للأسف دمها بيتقبل سم الأفعى وبيتعايش معاه كأنه جزء منه.
سكت سليمان لوهلة وهو يحدّق في الطبيب، شعر وكأن الكلمات تصطدم بجدران عقله ولا تجد منفذًا للفهم، ثم تراجع خطوة وهو يردد وكأن قلبه لا يصدق ما سمعه: يعني ايه يا دكتور؟ يعني هتعيش؟ ولا هتموت؟ بالله عليك فهمني، دي بنتي وعمري كله.
أجابه الطبيب بصوت هادئ فيه نبرة الطبيب العارف بما يخفيه القدر: بنتك مش بس هتعيش، دي كمان ممكن تتغذى ع السم وتعيش بيه طول عمرها، لأن جسمها بيتقبله وبيحلله.
نظر سليمان إلى وجه طفلته، ثم التفت إلى الطبيب وعيناه تترنح بين الذهول والخوف: طب اغمى عليها ليه لو كلامك ده صح؟
اجابه الطبيب بهدوء: أغمى عليها من الخوف، لأنها أول مرة تشوف أفعى وتتعرض لموقف زي ده، بس لازم تاخد بالك من حاجة، السم اللي فـ دمها من أخطر أنواع الأفاعي وده معناه انها ممكن تأذي أى حد يقرب منها، حتى لو اتنفست فـ وشه مش لمست بس، والموضوع ده لو اتعرف هيعزلوها فـ الحجر الصحي، ومش بعيد يخلوها حقل تجارب مدى الحياة.
خيم الصمت على الغرفة كستار ثقيل يسحب معه الأنفاس، وقف سليمان متجمّدًا، وعيناه زائغتان كمن تلقّى صفعة قوية دون سابق إنذار، تاه في دوامة من الأفكار تعصف داخله كرياح هوجاء تتأرجح به بين وهم السيطرة وقاع الخديعة، قلبه لم يخفق حزنًا، بل من فرط الإثارة التي حاول جاهدًا كتمانها خلف قناع الزيف، لم يكن يراها أبنة بل فرصة، صفقة، كنزًا نادرًا ساقته إليه الأقدار على حين غفلة، ابتلع ريقه ببطء في محاولة لإخماد ضميره، ثم أرخى ملامحه المتحجرة واستجمع دموع التماسيح في عينيه، وانحنى بجسده قليلًا للأمام ليقول بصوت متهدج تصنع فيه الحزن كمن كُسر قلبه، بينما ما كُسر داخله هو آخر ذرة شفقة: الله المستعان، ربنا يصبّرني ع الابتلاء ده، شكرًا يا كتور.
نظر إليه الطبيب بدهشة صامتة، حدقتاه تراقب ملامحه التي بدت كمن يمثل حزنًا لا يسكنه، شيء ما لم يطمئن له، نظرات الأب لم تحكِ خوفًا، بل بدت وكأنها تُحصي شيئًا ما، تزن المكاسب، وتتأمل المكائد.
غادر سليمان غرفة الطبيب، وفي يده الصغيرة بسيل، غافية لا تدري ما يُدبّر لها، ضمّها إلى صدره، لا بدفء الأبوة، بل بيد تمسك الغنيمة، وتخشى ضياعها، كل خطوة خطاها في الرواق كانت محملة بفرحة خبيثة، وقرار يُطبخ على نار هادئة: لازم ألعبها صح، بس كل حاجة فـ وقتها.
أما الطبيب، فظل واقفًا، ينظر إلى الباب الذي خرج منه سليمان وهو يحمل طفلته على ذراعيه، لكن عينيه كانت تبحثان عن شيء آخر، شعور غامض بدأ يتسلل إلى قلبه، تلك الطفلة لم تكن مجرد حالة طبية بل كانت لغزًا، ووراء لغزها أبٌ لا يبدو كما يدّعي.
وبعد قضاء ليلة كاملة داخل المشفى للإطمئنان على بسيل، اشرقت شمس النهار معلنة عن يوم جديد، يومٍ يزهو بأحلام وآمال أب تمكَّن الطمع من قلبه وأخمد صوت ضميره، غادر سليمان المشفى فكان يسير كمن يحمل سرًّا أثقل من الجبال لا على كتفيه فقط، بل يتغلغل في قلبه وعينيه وصمته، احتضن بسيل بين ذراعيه، لا كأب يحمل ابنته، بل كمن يهرب بها من مصيرٍ لم يختره، وكأن العالم كله صار فخًا، وهي الغنيمة أو الضحية.
نظر إلى وجهها البريء، فارتعشت في قلبه مشاعر متضاربة: أبوة تتألم، وخوف يلتف حول عنقه كحبل، وطمع يحاول التسلل كالدخان، سار بها نحو الحديقة، كأنه يبحث عن مكان يليق بما سيُقال، عن لحظة هادئة يمكن أن تحتوي عاصفة الحقيقة، كانت ألوان الزهور من حولهما تبهت أمام شحوب روحه، وتغريد العصافير لا يبلل قلقه الثقيل، جلس بجانبها على مقعد خشبي نصفه غارق في الشمس، والنصف الآخر في ظلٍّ يشبه ما بداخله، مدّ يده نحو كفها الصغيرة، واحتواها كما لو كان يطلب المغفرة من قلبها قبل أن يجرح طفولتها، همس بنبرة ممزوجة بين الحذر والانكسار: بسيل حبيبتى، الكلام اللى هقوله ده مش عايز أى حد يعرفه.
نظرت بسيل إليه ببراءة حقيقية لم تُلوّث بعد، وعيناها تشعّان ثقة مطلقة، تُدمي الخائن قبل المُخلص ونبرتها متسألة: كلام ايه يا بابا اللى مش عايزنى أقوله؟
وقف من مجلسه وهو يشدّ على يدها أكثر، صوته يتهدج رغم صلابته الظاهرة، وسار معها ببطء كمن يمشي فوق زجاج مكسور، كل خطوة كانت تنزف وجعًا صامتًا: بيسا حبيبتى، من النهاردة مش هينفع تلعبى مع حد من أصحابك، ولا تاخدى حاجة من حد، ولا حد ياخد منك حاجة.
عبس وجهها فجأة، وارتسمت سمات الحزن على ملامحها الطفولية البريئة، وهمست بقلق: ليه يا بابا؟ هو أنا عندي إيه؟
سكن صوته لحظة، ثم خرج محملاً برماد الوجع: انتى ما عندكيش حاجة يا حبيبتى بس لما التعبان قرصك، دخل السم في جسمك وبقيتي زيه، لو حد قرب منك، وأخد من أكلك أو شرب مكانك هيموت على طول.
بدا وكأن شيئًا ما انكسر داخل بسيل نظرتها تغيّرت، لكن صوتها ظل خافتًا، كأنه يخشى التصديق: هو كل اللى يقرصه التعبان بيبقى كدا يا بابا؟
أغلق عينيه لحظة، ثم زفر تنهيدة ثقيلة وهز رأسه بأسى: لأ يا حبيبتي مش كلهم، أنتى بس اللى كدا يا بيسا.
وقفت بصمت تنظر إليه بعينين دامعتين، ثم نطقت بسؤال ملأه رجف الألم: ليه أنا بس يا بابا؟
خرج صوته هذه المرة أعمق، كما لو كان يحفر في جرحٍ قديم بذاكرة لم تلتئم لينتزع سرًا دفينًا نسيه الزمن او تجاهله عمدًا: مامتك كانت كدا، واتعالجت لما حبينا بعض أنا وهى عشان نقدر نتجوز.
ثم تنهد ببطء، وخرجت زفرة ثقيلة من أعماق صدره: الظاهر كدا يا بسيل إنك ورثتى منها الحكاية دى.
تاهت ملامحها لحظات وارتسم على وجهها ارتباك الطفلة التي ضلّت الطريق وسط كلمات لم تُفهم، عقلها الصغير لم يستوعب ما قاله والدها، فتمتمت بتردد، وعيناها تائهتان: يعني إيه ورثت منها يا بابا؟ وإزاي ماما كانت كدا قرصها تعبان هى كمان؟
نظر إلى السماء، ثم إلى وجهها، ثم إلى لا شيء وكأنه يعبر حقل ألغام من الذكريات: بسيل يا حبيبتى انتي عارفة ان مامتك مش مصرية والبلد اللى هى منها فيها أفاعي كتير، جدك كان بيستخدم سم الأفعى وبيحقنها بيه وهى صغيرة عشان تدافع عن نفسها، ولما اتقابلنا وحبينا بعض كان لازم تتعالج وتنقى دمها عشان نتجوز، بس باين كدا إن أثر السم فضل فـ دمها وانتي أخدتيه منها وطلعتي زيها، فهمتي يا حبيبتي؟.
هزّت رأسها الصغيرة في صمت، تحاول أن تفهم عالماً أكبر من سنّها، ثم قالت بابتسامة باهتة تغلفها غصة: فهمت يا بابا خلاص، ومش هقول لأي حد.
ثم أردفت بصوتٍ خافت يشبه الهمس يقطر ألمًا: ومش هلعب مع أصحابي تاني ولا هكلم حد منهم.
هنا لم يعد سليمان يحتمل، احتضنها بعنفٍ يائس وكأن بين ضلوعه جدار يحميها من العالم: شاطرة يا حبيبتي، لازم نبعد عن الناس عشان انتى لسه صغيرة وضعيفة ومش عايز حد يعرف عنك حاجة، لكن لما تكبري وتقدري تدافعي عن نفسك ساعتها هتبقي في مركز قوة، وماحدش هيقدر يأذيكي.
انتفضت بسيل فجأة، كأن صاعقًا كهربائيًا اخترق قلبها الصغير، واندفعت من حضن والدها كمن يهرب من موتٍ وشيك، نظراتها المتسعة كادت تنفجر من الرعب، وصرخت بصوتٍ متهدّج مرتعش: ابعد عني يا بابا، مش عايزاك تموت زي ماما.
تراجع سليمان خطوة، وقد غاصت عيناه في دموعه قبل أن يسرع نحوها مجددًا، يطوي المسافة بينه وبينها بقلبٍ يحترق، وضمّها بقوةٍ تتحدى خوفها وارتعاشها، وهمس وسط شهقاته وكأنه يستجدي روحها أن تهدأ: ما تخافيش يا حبيبتي، مامتك حقنتني بمصل مضاد من أول ما اتعرّفنا، يعني مهما حصل قربك عمره ما هيأذيني.
رفعت بسيل رأسها نحوه ببطء، وعيناها تتسعان في حيرة حقيقية، ثم تمتمت بصوت خافت وهي تلوّح بكفيها الصغيرتين وكأنها تبحث عن إجابة: يعني ايه مصل مضاد ده يا بابا؟
ارتعش صوته في آخر كلماته، وكأن الوجع يخنقه، بينما كانت يداه تحيطان بكتفيها المرتجفين، كأنها الطوق الأخير قبل أن يغرقا معًا في موجة فزعٍ لا ترحم: يعني حقنة فيها دوا ما يخليش السم يموتني، فهمتي يا قلبي؟
ابتسمت الصغيرة أخيرًا وارتخى التوتر في ملامحها البريئة، كأن قلبها الصغير التقط صدق نبرة والدها، فتطلعت إليه بعينين أكثر اطمئنانًا وقد تلاشت مخاوفها حين أدركت أن اقترابها منه لن يجلب له أذى، وبعد أن أفصح سليمان لبسيل عن حقيقة أمرها، عادا إلى القاهرة في صمت ثقيل، تتردد فيه أنفاس الخوف والارتياح معًا وما إن دخل البيت حتى حمل ابنته الصغيرة إلى غرفتها، فوضعها في سريرها وغطّاها جيدًا وطبع قبلة طويلة على جبينها المرتجف، ثم همس لها وهو يربّت على شعرها: ارتاحي يا حبيبتي شوية، طول الليل فـ المستشفى وانتي تعبانة.
وما إن اطمأن على طفلته التي استسلمت للنوم بعد نوبة بكاء مريرة، حتى انسحب إلى غرفته بخطى مثقلة، كأن كل خطوة تحمل وطأة قلبه المنكسر، أغلق الباب خلفه ببطء، وكأنه يغلق على وجعه ليُخفيه عن العالم، ثم ألقى بجسده المُنهك على الأريكة، وأغمض عينيه هربًا من واقع لم يعد يحتمله، لكن الهروب لم ينفعه، باغتته الذكريات وتسلّلت إلى ذهنه دون استئذان، انبعثت في عقله صورة كميلا، زوجته حبيبته ورفيقة عمره، رأى عينيها المضيئتين كما كانتا تلمعان له في لحظات الصفاء، وابتسامتها التي كانت كفيلة بإطفاء نيران العالم من حوله، تذكّر كيف كان قلبها أقوى من الألم، وكيف ضمّته إلى صدرها وهي تُصارع الموت، تهمس له بأن لا يخاف، وبأن الحياة لا تنتهي بالغياب، زفر تنهيدة طويلة خرجت من أعماق روحه، وامتدت يده المرتجفة إلى الوسادة التي كانت دائمًا تجلس عليها، ضمّها إلى صدره بشوق كأنّه يحاول احتضان طيفها، أن يستعيد دفء غيابها المتجلّي في كل زاوية من الغرفة، دمعة دافئة انسابت على خده بصمت وهو يسترجع تلك اللحظة التي غيّرت مجرى حياته، اليوم الذي التقاها فيه لأول مرة، حين سافر إلى بلادها لإتمام صفقة كبيرة تتعلق بشركته، لم يكن يعلم أن الصفقة الحقيقية كانت مع القدر، فكانت هي المندوبة المكلّفة باستقباله في المطار، تقف في انتظاره بابتسامتها الهادئة وبطاقة تحمل اسمه، منذ النظرة الأولى، خالجته مشاعر غريبة لم يعهدها من قبل، شيء أشبه بالطمأنينة أو ربما، نداء روحه الذي وجد صداها في عينيها.
عاد سليمان من ذكرياته مع محبوبته كميلا، وقد أثقل الحنين صدره كجبلٍ من وجع ترددت كلماتها في أذنه كأنها تُقال الآن، بنفس النبرة، بنفس الارتجاف في صوتها وهي تخبره بالحقيقة التي أخفتها عن الجميع، استعاد ملامح وجهها الشاحب ودموعها الصامتة، ويدها المرتجفة تمسك بيده بعد حقنه بالمصل المضاد كأنها تستمد منه الأمان، وهي تسرد له كيف حُقنت بذلك السمّ اللعين، كيف صمد جسدها في وجه الألم، وكيف سعت سرًا للعلاج حتى تتمكن من أن تكون له، زوجةً، ورفيقة درب.
تذكّر كم كانت قوية، كم كانت تحبه، حتى إنها خاضت حربًا صامتة مع الموت لأجله، لكن الأعجب، أن تلك المعركة لم تنتهي بموتها بل استمرت في جسد الصغيرة بسيل، تلك الطفلة التي ورثت عنها كل شيء ملامحها، ضحكتها، وحتى ذلك الدم المسكون بالسمّ.
رفع سليمان رأسه، ونظر نحو الباب كأن الطفلة ستدخل عليه الآن، وعيناه تترقرقان بالدموع.
بعد وقتٍ طويل من الذكريات والتفكير فيما جرى لبسيل، قرر سليمان أن يطوي صفحة حياته القديمة بالكامل، وينأى بنفسه وابنته عن العالم، يبتعد عن نظرات الناس وأسئلتهم وفضولهم القاتل، فترك مسكنه المطل على النيل، ودّع الجيران الذين شاركهم أيامًا لم تعد تعني له شيئًا الأن، وانسحب من حياة الأصدقاء بصمت، كمن يهرب من ماضٍ يُطارده في المنام واليقظة، واقتنى فيلا معزولة فى منطقة نائية بعيدة عن ضجيج المدينة، عن العيون، عن الأسئلة الثقيلة، هناك، حيث لا صوت إلا أنفاس الوحدة، بدأ حياة جديدة مع بسيل لا تشبه أي حياة سابقة، نقلها من مدرستها إلى أخرى لا تعرف فيها أحدًا، ولا يعرفها أحد، وأمرها أن ترتدي قفازات تُخفي كفيها، وكمامة تُغطي نصف وجهها طوال الوقت، وعلّمها كيف تُتقن الانكماش، التواري، والانغلاق، فلم تكن القفازات درعًا من برد، ولا الكمامة حذرًا من عدوى بل كانت حجابًا واقيًا للآخرين منها، فعلى مدى خمس سنوات عاشا في عزلة شبه تامة، لا يختلطان بأحد ولا يسمحان لأحد بالاقتراب، كان يغذيها بالسُم كما تُسقى الزهور بالماء، جرعات دقيقة تُخلط في الطعام أو تُذاب في الشراب، وكأنها وقودها، ومع السُم دسّ في عقلها أفكارًا أخرى كالحذر، الشك، الغضب، ثم الانتقام.
لكن لكل شيء موعده، ولكل نار وقت لاشتعالها.
وفي أحد الأيام، بينما كانت بسيل تقف في فناء المدرسة، اعتادت ركنها المعزول، حيث ظلال الجدران تغلف وحدتها كأنها تحتمي بها من عالم لا يرحم، وقفت صامتة كما تعوّدت، وكما أوصاها والدها دومًا، عيناها ترقبان الجميع من خلف الكمامة، حذرة، متوترة، ويداها متشابكتان داخل قفازين كأنهما يخفِيان سرًّا مرعبًا او لعنة لا يجوز لأحد لمسها، لا تتحدث مع أحد ولم تبادل أحدًا نظرة، كانت الصمت نفسه، لكنها تعلم جيدًا ان الصمت لا يحمي دائمًا.
أقتربت منها أيتن زميلتها، بخطى متعمدة، تتأرجح بثقة ساخرة، وعيناها تحملان نظرة تفضح نواياها، اقتربت حتى كادت تلتصق ببسيل، ثم قالت بصوت مرتفع يكفي ليصل لآذان الجميع من حولها: مغرورة هانم مش ناوية تنزل من فوق عرشها وتقعد معانا؟ ولا شايفة نفسها علينا؟
رفعت بسيل رأسها ببطء، بنظرة حزينة من خلف رموش كثيفة وكمامة تخفي ألمها، لم تنطق ولم تغضب فقط صمت موجع وانسحاب هادئ، لكنها لم تبتعد بثبات بل بدت خطواتها كأنها تدوس على أشواك، وكل خطوة تهز شيئًا مكسورًا بداخلها، فهي لم تكن يومًا مغرورة أو متعالية، لكنها أسيرة، أسيرة سرّ دفين، أسيرة جسدها المختلف، وأسيرة وصايا والدها التي تحوّلت إلى قيود مقدسة، لا تجرؤ على كسرها.
لكن أيتن لم تكتفي، ولم ترى في انسحاب بسيل نهاية، تبعتها بخطوات واثقة، وإلى جانبها صديقتها تتبادلان النظرات والنكات كأنهما تصطادان فريسة، قالت أيتن بنبرة لاذعة، تتأمل وجه بسيل وكأنها تستعد لطعنها بكلماتها: ياما نفسي أكسر مناخيرك دي اللي طالعة بيها السما، فاكرة نفسك مين؟ مافيش غيرك في المدرسة ولا إيه؟
ضحكت صديقتها بتهكم، تقلدها متعمدة: أنا كدا وهفضل كدا طول عمري، بحب أبص ع الناس من فوق.
ردّت أيتن وهي تضحك بسخرية غليظة: انزلي يا ماما ع الأرض، وعيشي عيشة أهلك شوية.
لوّحت صديقتها بيدها باستهزاء: أنا لو عشت عيشة أهلي، مش هعدّي من جنب مدرستكم دي أصلاً.
استمرت السخرية تتردد بينهن، كلماتهن كالسياط تضرب مشاعر بسيل، وكل حرف منها سهم مسموم ينغرس في قلبها.
حاولت بسيل أن تلوذ بصبرها، وتتجاهل حديثهن، لكنها لم تعد تملك طاقة للهروب، فالكلمات اخترقت دفاعاتها، ونظراتهن الطاعنة جرحتها في الصميم،
استدارت إليهن فجأة، والغضب يشتعل في صوتها المقهور: عايزين مني إيه؟ شيلوني من دماغكم، وابعدوا عني أحسن لكم.
اقتربت أيتن أكثر، والابتسامة الساخرة ما زالت معلّقة على وجهها: ولو ما بعدناش؟ هتعملي إيه يا حلوة؟
ونظرت بسخرية إلى ما ترتديه بسيل، وأشارت بوقاحة واضحة إلى القفازات والكمامة: وإيه الجوانتي ده؟ ولا الكمامة دي كمان؟ على طول لابساهم كدا زى ما يكون عندك مرض فـ جلدك ومش عايزة حد يعرف.
وبحركة خاطفة، امتدت يداها وجذبت القفاز والكمامة من بسيل بعنف.
شهقت بسيل وانتزعت أشيائها بعنف من أيتن وقد تسببت دون قصد في خدش يدها بأظافرها ثم صرخت بها بحدة وعيناها مشتعلة بالغضب: بلاش تستفزيني أحسن لك.
لكن أيتن اقتربت أكثر، وهمست بنبرة باردة كأنها تتحداها: ولو ما بطلتش؟ هتعملي إيه يعني؟
في لحظة وقفت بسيل، جسدها مشدود، عيناها تشتعلان كأن فيهما نيرانًا توشك أن تلتهم كل من حولها: هعمل كتير يا أيتن، وصدقيني وقتها هتندمي أشد الندم.
ضحكت أيتن، بسخرية مستفزة: وأنا مستنية أشوف، هتخليني أندم إزاي؟
غادرت بسيل دون أن ترد، لكن خطواتها كانت مختلفة هذه المرة لم تكن ضعيفة ولا متعثرة بل كأنها تسير فوق نار مشتعلة، الغضب كان يتفجّر داخلها كالبركان، وفي تلك اللحظة اتخذت قرارًا لا رجعة فيه، وعزمت على تنفيذه مهما كلّفها الأمر.
لكن، تُرى ما ذاك القرار؟
وهل خطر لأيتن ولو للحظة، أي جحيمٍ سيفتحه هذا القرار الغاضب بيديها؟
الكوبرا بقلمي✍️________لبنى دراز
يتبـــــــــع