عالم موازي
رواية عالم موازي بقلم نورا محمد على
الفصل الرابع
مضى شهر دون تحسن، شهر كل يوم يمر ، تشعر بأنها مقصرة، ولكن على ماذا تلوم نفسها؟ هي لم تفعل شيء من الأساس، حتى تعاقب روحها وتلوم عليها بشيء لم تفعله، فما هي إلا بشر! لا تستطيع فعل أشياء كثيرة، كانت تنظر له وهي تطعمه، ولكنها لاحظت أنه لا يتقبل هذا الطعام، لا يشتهيه تحركت لتحضر له شيء آخر وهي تفكر، لقد تناول طعامه بالأمس دون رفض، أما الآن فهو يغلق فمه ولكن هل هذه استجابة؟
هل هذا رد أم رفض؟ شيء شق قلبها بأمل لقد رفض نوعا معين من الطعام، وآبى أن يفتح فمه ليتناوله، اذاً هناك أمل، في أن يرفض شيء بلسانه تحركت إلى المطبخ تبحث في الثلاجة عن شيء من طعام اليوم السابق، وهي تمني نفسها بقبوله..
قامت بتسخينه وذهبت إليه وهي تقول:
_مروان باشا جبنا أكل تاني لما نشوف..
قربت الطعام من فمه، ففتح فمه كادت ان تضحك ان تصرخ ان تنادي على معتز، الذي لا زال في عمله لم يعود بعد، ربما لأنه لا يريد أن يشرك عائلته بما يعانيه؛ أصبح يزيد على نفسه في العمل حتى يستطيع أن يوفر المال الكافي لاستمرارية العلاج، أما هي ما ان انتهت من إطعامه، حتى قامت بمساعدته ليغتسل ويبدل ملابسه، كانت تتوقع أي شيء، رد فعل هروب أو رفض لبعض الملابس، ولكن أملها خاب..
فلقد أستجاب لكل شيء تفعله، دون رد بعد أن غفى كان ينام في فراشه، وهي تنظر له وابتسامة تداعب شفتيها وهي تقول:
_نوم العافية يا قلب ماما
ظلت واقفة وهي تبتسم بفرح تشع من القلب تظهر في عينيها لأول مرة منذ اُصاب ابنها بتلك الحالة..
لم تشعر بمعتز وهو يفتح الباب اقترب بخطوات مرهقة حيث تقف، نظر إلى الأبتسامة التي لم يراها على وجهها منذ فترة طويلة، واقترب ليقبل خدها فانتفضت
_الجميل سرحان في أيه؟
_ خضتني يا معتز
_خضتني! ده احنا سرحانين بقى! بتفكري في حد غيري ولا ايه؟!
_ هو فيه في القلب غيرك
أقتربت لتضمه وهي ترفع عينها في عينيه، ربما لأول مر ه منذ إصابة طفلهم، ابتسامة شقت شفتيه وهو يقربها منه أكثر، يقبل طرف شفتيها وهو يتساءل بداخله، ما الذي حدث في غيابه جعلها ترجع كما كانت؟ قربها منه أكثر وهو يستنشق خصلات شعرها بقوة وهو يقول:
_ أنا فايتني كثير.. ايه اللي حصل من أمبارح للنهاردة خلاكي مبتسمة وبتقربي لا في حاجة؟
_ غلطانة يعني..
_ انت تغلط برضو يا قمري ازاي..
قربته منها وهي تقول: النهاردة حصل حاجة كويسة..
_ أيوه أنا عايز أعرف الحاجة الكويسة دي عشان نعملها على طول، عشان اشوف ضحكتك الحلوة دي منورة وشك تاني..
نظرت له بدهشة ممزوجة بالحب فاكمل كلامه وقال:
_ حرام عليك يا سما حتى الضحكه حارمه نفسك منها، انت بتعملي كل اللي تقدري عليه، يبقى ما تلوميش على نفسك بحاجة مش في استطاعتك، احنا في النهاية بشر..
_ عارفة يا حبيبي
_حبيبي كمان، طب يا جميل مش تعرفيني السبب إللي خلى الفرحة تسكن قلبي بكلامك إللي زي العسل..
_ مروان..
ابتعد خطوة لينظر في عينيها، ويرى الابتسامة لا زالت على وجهها، زادته صبا وجمال وهي تقول:
_ رفض يأكُل..
نظر لها بدهشة وهو يسأل: ودي حاجة تفرحك؟
_انت مش فاهم رفض يأكل الأكل إللي أنا طابخاه النهاردة، قفل بقه بأصرار..
كاد ان يمزح ويسأل طابخة ايه النهاردة، الا أنه سأل:
_وبعدين؟
_وبعدين رحت جبت له أكل من بتاعي امبارح وقتها اكل
_قصدك إنه بدأ يعبر عن إللي عايزه ولا أيه؟
_ أيوه يا معتز كنت زعلانة انه مش راضي ياكُل بس حاجة رنت في دماغي، وافتكرت إنه كان بياكل امبارح عادي، رحت جبت له من الأكل بتاع أمبارح لقيته أكل، معنى كده ان هو بدا يطلع من عزلته، ومعنى كده ان هو بدا يستجيب بس ليه ما بيبصليش؟ ليه ما بيتحركش؟ ليه ما بيصرخش..
اخذت تتكلم وانطفات البسمة على وجهها وتجمع الدمع في عينها، وكأنها تشتاق إلى تلك الأيام التي كان يسكن المرح بيتهم، بصوته المرح والصخب الذي كان يملا البيت حياه..
حاول ان يخرجها من تلك الحالة وهو يقول:
_ انا حسدتك ولا ايه؟ طب انت زعلانة ليه دلوقتي مش قلنا اول الغيث قطرة..
_ بس القطرة دي بتيجي كل فين وفين..
_ يا بنتي شوية صبر..
_ اكثر من كده، عارف يعني ايه شهر على ما يرفض حاجة..
_ فاكره الدكتور راضي قال ايه؟ "ممكن يقعد سنين على الوضع ده" عارفه يعني ايه في شهرين اثنين قال لك بطريقة مش مباشرة مش عايز أكل الأكل ده، لقى طريقة للتواصل معاكي، أنت زعلانة أنه بيحاول، ولا زعلانة أنه مش بيحاول كفاية؟
نظرت له بدهشة وهي تستسيغ كلامه الذي يحمل بين طياته الكثير ورجعت لتبتسم وهي تحرك اصابعها على صدره وهمست بخجل:
_ مش عارفه
_ لا عارفه بس خايفه.
نظرت له وهي تراه يقرأ أفكارها،
هزت رأسها بموافقه فاقترب يقبلها بشغف وهو يضمها بين ذراعيه، وهو يتحرك بها إلى غرفتهم..
_ معتز وبعدين؟
_ هقولك..
كاد ان يتحرك معها عندما استمع الى صوت الباب نظر لها بابتسامة وهو يقول:
_هتروحي مني فين هشوف الباب وارجعلك
_انا هروح المطبخ احضر ليك الأكل..
نظر لها برفض لكنه فتح الباب تفاجأ بأمه التي تنظر له بشوق رغم رفضها لسما إلا أنها الآن على استعداد ان تتقبلها في حال رجع ليعيش معهم في نفس البيت..
معتز: اهلا ماما نورتي بيتك
مروة: بيتي.
ادرك السخرية المبطنة في كلماتها وهو ينظر لها ويقول:
معتز: اه ما هو مش قد مقامك، بس قد مقامي..
نظرت له برفض هي لا تتوقع منه ان يرضخ لذلك الامر وتقبله لتلك الشقة المتواضعة، التي انتقل إليها بعد تلك المواجهة مع والده، حتى سيارته التي لا تليق به ولا بهم، زوجته التي إلى الآن لم تقبلها ولكنها لا تستطيع ان تمتنع عن القدوم إليهم، لا تستطيع أن تتوقف عن أن تحب حفيدها، حتى لو كانت لا تحب امه، تجاوزت عن الرد على تلميحه السخيف من وجهة نظرها، وهي تسأل بلهفه:
_مارو فين؟
الخوف على وجه زوجته كان واضحا واللهفة على وجه امه كانت اوضح، لذا رد:
_ نايم
_يا خسارة النص ساعة اللي جاي أشوفه فيها يطلع نايم، يا ريت تصحيه يا هانم..
نظرت إلى زوجها تنتظر العون، ولكنه احاط والدته بذراعه وهو يقول:
_ من كام يوم كان تعبان واحنا ما صدقنا ان هو ينام
_انت بتقول ايه؟ ازاي تعبان!
_ زي ما أي طفل بيتعب يا امي.
أخرجت أنفاسها بقلق على حفيدها الوحيد المتعب وهي لا تعلم عنه شيء، والفضل يرجع لتعنتها ورغبتها في أن تزوجه من أخرى، لكن هل ترى أن ابنها الذي فضّل زوجته وانشق عنهم حزينا، تعيسا، نادما.. بالطبع لا، لقد حظى بسعادة لم تراها على وجهه منذ سنوات ، لقد كان سعيداً؛ الضحكة تملأ عينيه وقلبه قبل وجهه، رغم جديته في العمل يأتي ملهوفا إلى بيته البسيط، الذي لا يمت بصلة إلى مستواه الاجتماعي، كل هذا لم تكن لتراه من قبل ولكنها في هذه اللحظة، التي ترى فيها سما تشعر بالخوف وهي تنزوي مكانها..
وكأنها لا تستطيع مواجهة نظراتها الحادة، انتبهت على صوت أبنها الذي يرد بتلقائية، كأنه يخبرها أنها لا تهتم به، حتى تهتم بمرضِ وحيده، ردت على السؤال الذي لم يطرحه او الذي يتخيله في عقله، وهي تقول:
_ انت اكيد مش فاهم كده!!
_فاهم أيه؟
_انا مستحيل أكون مابحبش مروان !
_محدش قال انك ما بتحبيهوش
_ انت اللي بتبعده عني
_اوقات كتير بيبقى البعد سبب للراحة، اوقات كثير بيكون افضل، التصادم بين اللي انتِ عايزاه واللي أنا مش عايزه كان قوي، وانا اختياراتي واضحة ومؤكدة، لو رجع بيا الزمن هختارها تاني، هختار مراتي حتى لو ما خلفتش..
شعرت سما بموجة ترطب على قلبها وروحها، وهي لا تعرف ماذا عليها ان تفعل؟ أتسرع إلى حضنه حيث مكانها الطبيعي، أم تتحلى بالعقل الذي يطالبها بان تبتعد عن تلك المواجهة؟ ولا تكون طرفا فيها، حتى لا تثار والدته اكثر، وتصبح العداوة أكبر بينهما...
هناك في الطرف الآخر من الصالة نظرت له أمه بحدة وهي تتساءل برفض قاطع لمعني كلامه
_ قصدك انها أهم مني؟
_ غلط..
_هو ايه اللي غلط؟
_سؤالك نفسه غلط، مفيش حد يتقارن بيكي..
ابتسمت وهي ترفع يدها لتحركها على كتف وحيدها، وكانه نَصفها اخيراً، بينما هو يكمل..
_حبك انتِ عمره ما ينتهي ولا يخلص مهما غلطتي فيا او قسيتي عليا، انت مش حبيبتي..أنت روحي.. انت امي
كان يتكلم وقلبها يتضخم من السعادة والفرح، تنظر إلى سما كمن اصبحت في مركز قوة اخيرا وسؤال يلوح في عقلها
هل ندم ابنها؟ هل سيتراجع عن تلك الحياة الرثة التي يعيش فيها؟ ولكن دلو من الماء سكب فوق رأسها وهي تستمع إلى باقي كلامه، وهو يقول بكل المشاعر التي تعتمل بداخله، وتسكن روحه.
_ بس اللي بيني وبين سما حاجة ثانية...
#روايات _بقلم _نورا محمد علي .